ARTICLE AD BOX
هناك حادثتان تؤكدان صدق مقولتي وكلتاهما كانتا على إثر أحداث السادس من مارس/آذار الأليمة في بلادنا، وفي ساحلنا على وجه الخصوص. وأجدهما جديرتين فعلاً بالتوثيق وتأكيداً على حقيقة وجود نسغ انتماء وطني جديد يشرق لا محالة كحقيقة واقعة بين السوريين اليوم.
الحادثة الأولى هي حول شبان حاجز عسكري في منطقة من أكثر المناطق المنكوبة تضرراً في الساحل السوري. وشبان الحاجز أنفسهم كانوا هدفاً لهجمات مروعة عشية الأحداث وبحكم انتمائهم للعسكرية كانوا هدفاً لضربات وهجمات متواترة كان الهدف المباشر لها تصفيتهم في نقطتهم العسكرية بالذات. بعد انتهاء الهجوم عليهم وفي اليوم التالي مباشرة، اجتاحت الفصائل غير المنضبطة والعشوائية شبيهة الدفاع الوطني سابقاً المنطقة. وبحجة الثأر للهجمات التي تعرض لها هذا الحاجز وشبانه، ابتدأت تلك الفصائل الهمجية عمليات قتل وذبح وتعفيش منفلتة العقال، جنونية وهستيرية دون ضابط أو رادع وبوحشية لا توصف. فماذا كانت مهمة شبان الحاجز؟ وقد كان لي شرف معاينتها بأم العين، حيث إنه ومع الصباح الأول وبعد انتهاء الهجوم عليهم بالذات ومع انفلات الفصائل الهمجية في القرية، كان الشغل الشاغل لمجموعة شبان الحاجز هي حرفياً تخليص الأهالي ما أمكن وإنقاذ أرواحهم ما أمكن من يد المليشيات البربرية المنفلتة. عشرات العوائل أخرجوها هم من المنطقة.. عشرات المحال التجارية حموا محتوياتها.. عشرات البيوت منعوا حرقها.. وقد كنت في كثير من التفاصيل معهم لحظة بلحظة. قوافل كاملة من العائلات أخرجوها من مناطق الجنون والقتل وقد كنت معهم في أحد تلك القوافل.. وعلى طريق المدينة يوقف القافلة حاجز ليبدأ بالهجوم على أحد شبان الحاجز والذي تولى بنفسه إخراجهم.. وليصل به حد اتهامه بالخيانة.. لماذا تخرجهم أليسوا علوية؟ هل هم عطفوا علينا وعلى نسائنا؟ وليتحول الأمر إلى شبه صدام حتى تمكنّا أخيراً من التواصل مع المسؤول عن الحاجز وإيصال السيارات إلى منطقة آمنة. بضائع مسروقة أعادوها إلى محلاتها.. رأيتهم يقومون بجنزرة محلات مخلوعة وإقفال أبواب بيوت مكسورة.. وشهدت على عملية إعادتهم لسيارة مسروقة من جسر الشغور لمحامٍ من المنطقة ومن دون أي مقابل مادي. والعملية كلها موثقة بفيديوهات توثق تسليم السيارة لصاحب العلاقة.
صاحب ميكروباص من إدلب المدمرة فقد ثلاثة شبان في الحرب يجازف بحياته لإجلاء العائلات مجاناً، بينما يستغل مرتزقة آخرون مأساة الناس بمبالغ طائلة
عشرات المآثر الصغيرة والبسيطة كنت شاهداً عليها ومشاركاً لهم فيها.. الشبان على هذا الحاجز كانوا قد تعرضوا لهجوم وحشي قبل ليلة فقط وكان الغرض منه ذبحهم ولكنهم صدوا الهجوم ونجوا.. إنهم أبناء قرية واحدة.. وللعلم قريتهم مدمرة.. عائلاتهم وأطفالهم يسكنون الخيام.. وكل ذلك لم يمنعهم من القيام بعمل إنساني ووطني أصيل سيظل صداه طويلاً عند الشرفاء في المنطقة التي خدموا فيها وكان حاجزهم فيها.
الحادثة الثانية هي أنه وخلال عمليات إجلاء الأهالي استعنت بصديق لي يملك ميكرو باص لإخراج العوائل من المناطق المنكوبة باتجاه المدينة وباتجاه المناطق الآمنة. عشرات الأطفال والنساء والشبان وعشرات الرحلات قطعها ذاك الميكرو باص القديم ناقلاً المئات وهارباً بهم.. وخاصة في الأيام الأولى التي كانت فيها الرحلات مغامرة حقيقية بالأرواح، كلها بالمجان ودون أي مقابل.. في الرحلات الأخيرة اضطررنا أن نبدأ بالطلب من الأهالي وبخجل شديد أن يجمعوا لنا مبالغ زهيدة لأننا لم نعد فعلياً قادرين على شراء المحروقات.. مبالغ لا تتجاوز العشرة دولارات مقسمة على خمسة عشر شخصاً أو أكثر في الرحلة. ليتم شراء مادة المازوت ثم المتابعة بمهمات عملنا المنهكة من توزيع الخبز إلى إخلاء الأهالي..
ثلاث حقائق عن هذا الميكرو باص العتيد.. أولاها أن صاحبه الشهم من إدلب من ريفها المدمر بالذات وهو أب لطفلين يقطن في واحد من أفقر أحياء مدينة اللاذقية القنينص، وثانيتها هي أنه كان قد دفن ثلاثة شبان سقطوا على يد النظام الأسدي خلال الحرب السورية المريرة وكلهم بعمر الورود، وثالثتها هي أننا عرفنا بعد فترة أنه وفي المناطق التي كنا نعمل بها كان هناك بعض المرتزقة الذين نقلوا بعض الأهالي الميسورين إلى المدينة بكلفة تتجاوز الألفي دولار للرحلة الواحدة، في واحدة من أقذر أشكال الابتزاز والانتهازية.
عندما علمنا صديقي وأنا بالأمر ضحكنا كثيراً ونحن نتذكر خجلنا الشديد عند طلب العشرة دولارات من الأهالي ونحن فعلاً لم تعد في جيوبنا ليرة سورية واحدة.
إنهما مشهدان.. قدمتهما لك صديقي القارئ بعجلة ولكني واثق أن الصورة قد وصلت. هناك شيء كبير وعظيم وخفي كامن في أعماق الشعب السوري وأكبر من كل زبد الطائفية والمذهبية القذرة.. إنه انتماء وطني جبار وإحساس عميق بوحدة الحال ووحدة المصير تجعل السفاهات الطائفية تبدو صغيرة ووضيعة وبلا قيمة.. وتجعلنا ندرك كم أنها عابرة.. إنها لحظة آسنة فقط في تاريخ مسيرة شعب عظيم.