ARTICLE AD BOX
في ظل استمرار الأزمة في ليبيا لأكثر من عقد من الزمن، تبدو الحلول الأممية المتعاقبة كحلقات مفرغة تدور حول ذاتها، تارة تطفو على السطح بوعود الانتخابات والدستور، وتارة تختفي تحت ركام التعقيدات السياسية والعسكرية، وآخرها المبادرة التي أعلنت عنها منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي لتمهيد الطريق أمام إجراء الانتخابات عامة. والثلاثاء الماضي أعلنت البعثة الأممية عن أربعة خيارات توصلت إليها اللجنة الاستشارية، التي شكلتها البعثة ضمن مبادرتها من 20 شخصية ليبية للعمل على تفكيك نقاط الخلاف في الأطر الانتخابية وتصور حلول لها. ورغم أن هذه الخيارات تهدف لتسهيل رسم خريطة طريق نحو الانتخابات في ليبيا في وقت تشهد فيه العملية السياسية انسدادا كبيراً منذ فترة، إلا أن أسئلة كثيرة تُثار حول اختلافها الجوهري عن المبادرات السابقة في نقاط واتفاقها في أخرى، وسط عنوان عريض يتساءل حول جديتها أم كونها نمطاً متكرراً من الفشل الأممي الذي رافق جهودها لقرابة العقد.
خيارات أممية في ليبيا
تدور الخيارات الأربعة حول آليات تنظيم الانتخابات، فعبر الأول تجرى انتخابات رئاسية وتشريعية وتنتهي بإنجاز دستور دائم للبلاد في غضون عامين. وتُجرى في الخيار الثاني انتخابات تشريعية فقط يتولى خلالها البرلمان الجديد صياغة دستور جديد في مدته البرلمانية المحددة بأربع سنوات. وفي الخيار الثالث يجرى أولاً استفتاء على الدستور المنجز منذ عام 2017، أو إعداد دستور جديد ليكون أساساً لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، أما الخيار الرابع الذي وصفته اللجنة بـ"خيار الفرصة الأخيرة" فيتم خلاله إلغاء كل الأجسام السياسية الحالية وإنشاء "مجلس تأسيسي" مؤلف من 60 شخصية ليبية من خلال تفعيل آليات اتفاق ملتقى الحوار السياسي لعام 2021، ويقوم هذا المجلس بإعداد دستور مؤقت خلال مرحلة انتقالية عمرها أربع سنوات.
خالد الأجهر: المبادرة الأممية الأخيرة تستجيب لمطالب الأطراف المتناقضة
وفي كل الخيارات أوصت اللجنة الاستشارية بضرورة تشكيل حكومة موحّدة جديدة بصلاحيات محددة، وتنتهي كل مرحلة بإعداد دستور للبلاد ينقلها إلى انتخابات برلمانية ورئاسية تنهي المراحل الانتقالية والدخول في المرحلة الدائمة. وسبقت المبادرة الحالية سلسلةٌ من المبادرات، ففي عام 2015 أطلقت البعثة الأممية أولى مبادرات الحوار السياسي في أعقاب عملية "فجر ليبيا" في طرابلس، بين قوات موالية للواء المتقاعد خليفة حفتر وقوات من غرب البلاد طردت أنصار حفتر من العاصمة، وانتهى بتوقيع اتفاق الصخيرات في ذات العام، الذي نص على تشكيل حكومة الوفاق الوطني، وتمديد ولاية مجلس النواب المنتهية وقتها، وإرجاع المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق) إلى الواجهة باسم "المجلس الأعلى للدولة" كشريك لمجلس النواب في العملية السياسية. لكن التسوية انهارت بعد رفض مجلس النواب منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني وتشكيل حكومة موازية في البلاد، بدفع من حفتر الذي وسع نطاق عملياته العسكرية نحو درنة شرقاً، والهلال النفطي وسط البلاد، ما كشف عن عجز الاتفاق عن فرض ضمانات تنفيذية. ووسط انشطار سياسي حاد في ليبيا لم يتمكن مجلسي النواب والدولة على التوافق على قواعد دستورية لإجراء انتخابات خلال 18 شهراً من بداية بدء الاتفاق كما نصت بنوده.
وفي يناير/ كانون الثاني 2019 أعلنت البعثة الأممية عن مبادرة ثانية عنوانها "المؤتمر الوطني الجامع" بدعوة الأطراف الليبية كافة لإنجاز ميثاق وطني جامع يفضي إلى إجراء انتخابات، لكن حفتر قوّض المبادرة، إذ استبق انعقاد المؤتمر بأيام حين شن حرباً على طرابلس استمرت حتى منتصف العام التالي. بعد فشل هجوم حفتر، عادت الأمم المتحدة لرعاية مبادرة جديدة من خلال حوار سياسي جديد انتهى بتوقيع اتفاق في جنيف، مطلع عام 2021 عُرف باسم اتفاق ملتقى الحوار السياسي، نصّ على تشكيل سلطة تنفيذية موحدة (المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية)، وبدء مسار دستوري بين مجلسي النواب الدولة لإجراء انتخابات في مدة لا تتجاوز 18 شهراً. لكن الخلافات حول شروط الترشح وتوزيع الدوائر الانتخابية أفشلت الانتخابات المخطط لها نهاية 2021، ليعود الانقسام السياسي مجدداً مع سحب مجلس النواب الثقة من الحكومة وتشكيل حكومة موازية في الشرق.
مبادرات وحوارات
في محاولة جديدة، دعت البعثة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 إلى طاولة حوار خماسية تضمّ رؤساء مجلس النواب ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية وحفتر، لكنها فشلت بسبب رفض الأطراف التفاوض المباشر. وتلت ذلك مبادرة من الجامعة العربية كررت فيها النموذج نفسه، لكن على نحو مصغّر، إذ جمعت في مارس/ آذار 2023 حول طاولة ثلاثية رؤساء مجلس النواب والدولة والمجلس الرئاسي، إلا أن انقسام مجلس الدولة بسبب الخلاف على نتائج انتخابات رئاسته أحبط هذه المبادرة أيضاً. وفي فبراير/ شباط الماضي دعا الاتحاد الأفريقي الأطراف الليبية لتوقيع ميثاق سلام ومصالحة في أديس أبابا، لكن مقاطعتها حوّلت المبادرة إلى حدث شكلي.
وعن المبادرة الجديدة، يلفت أستاذ القانون الدستوري خالد الأجهر إلى أن الخيارات الأربعة طرحتها اللجنة الاستشارية لا في شكل معالجات قانونية فحسب، بل أولت خلفيات الأزمة السياسية أهمية لاستمرار وقوفها عقبة في طريق أي تسوية. ويضيف الأجهر في حديث لـ"العربي الجديد" أن السياق الذي وُلدت فيه المبادرات السابقة كافة وطبيعة الأطراف، يبرز فارقاً جوهرياً أثّر على تحويلها إلى واقع ملموس. ويوضح أن اتفاقي الصخيرات وجنيف ولدا في أعقاب حروب شاملة، فقد جرى توقيع اتفاق الصخيرات عام 2015 بعد عملية "فجر ليبيا" التي طردت القوى العسكرية الرافضة لخليفة حفتر أنصاره من طرابلس، وعندما خسر حربه على طرابلس منتصف عام 2020 وقّعت الأطراف اتفاق جنيف مطلع عام 2021، حين وجدت الأطراف نفسها في حالة ضعف، ما دفعها لقبول تسويات تحوّلت إلى اتفاقات موقّعة وإن كانت من دون أي نيّة في الالتزام.
عيسى همومه: الطبقة السياسية وقادة الأطراف يتعاملون مع التسويات كوسيلة للبقاء في السلطة
ويلفت الأجهر إلى أن المبادرات الأخرى (ملتقى الحوار الجامع والطاولتين الخماسية والثلاثية والمصالحة الأفريقية) جاءت في فترات هدنة نسبية كانت الأطراف تتمتع فيها بمساحة للمناورة السياسية وتمكنت من عرقلة تحولها إلى اتفاقيات موقعة. وعن المبادرة الأممية الأخيرة، يرى الأجهر أنها تختلف عن سابقاتها في سعيها لمعالجة تعقيدات هياكل للأزمة، عبر طرح خيارات متعددة تتناسب مع تعدد الأطراف وتضارب مصالحها. ويعتبر الأجهر أن الخيارات الأربعة تضمنت جوانب إيجابية، كتمتعها بمرونة زمنية تتراوح بين عامين وأربعة أعوام، مقارنة بالآجال المحددة لاتفاقي الصخيرات وجنيف بـ18 شهراً التي لا تسمح بوقت كافٍ لتنفيذ بنودها. ومن جوانب القوة التي يبرزها الأجهر في الخيارات الأربعة، استجابتها لمطالب الأطراف المتناقضة، الخيار الأول والثاني (انتخابات رئاسية وتشريعية وانتخابات برلمانية فقط) يلبّيان رغبة من ينادون بإجراء انتخابات متعاقبة أو برلمانية فقط، بينما يستجيب الخيار الثالث (الاستفتاء على الدستور) لمطالب من ينادون بانتقال فوراً للمرحلة الدائمة مخافة أن تكون الخيارات الأخرى لإطالة فترات الانتقال. أما الخيار الرابع (مجلس تأسيسي) فيستجيب لرغبة أغلبية الليبيين الذين لم يعودوا يرغبون في استمرار الأجسام السياسية الحالية كشريك في أي مرحلة أخرى، ولو كانت محدودة، وضرورة تجديد الوجه السياسي كلياً.
صعوبات في التطبيق
لكن في المقابل، يشير الأجهر إلى جوانب ضعف، وأهمها أن غياب الإطار الدستوري يُهدد بتحويل الخيارات إلى مجرد سيناريوهات تنظيرية توقف الواقع فقط، مضيفاً: "لم تذكر البعثة الأممية من يعلن نتيجة اختيار الليبيين من الخيارات الأربعة، وعند الانطلاق في أي منها من الضروري أن يؤطرها سند دستوري ينتهي بالمصادقة عليها كوثيقة دستورية، فمن يفعل ذلك؟ والاستفتاء على الدستور أو صوغ جديد من يشرف عليه؟ ومن يمنح الشرعية للمجلس التأسيسي إذا أُلغيت كل الأجسام السياسية الحالية؟ كل هذه الأسئلة تظل بلا إجابات لنكتشف أن الخيارات تفتقر إلى آليات دستورية وقانونية لتنفيذها".
من جهته، يقول الباحث في الشأن السياسي عيسى همومه لـ"العربي الجديد"، إن أسباب تعثر المبادرات الأممية في ليبيا هي ثلاثة: عدم القدرة على الاعتماد على الأطراف لفقدانها شرعيتها، ولذا ذهبت البعثة إلى تكليف شخصيات من خارج مجلسي النواب والدولة، مثلما حدث في تكليف 75 شخصية من مختلف الشرائح الليبية في ملتقى الحوار السياسي في جنيف، وتكليف 20 شخصية في اللجنة الاستشارية الحالية. ويرى أن التدخّلات الدولية المتناقضة هي السبب الثاني في فشل المبادرات، فرغم تبني المجتمع الدولي للحلول السياسية، إلا أنه لم يشارك في تقديم ضمانات لتنفيذها، بل إن تنافس الأقطاب الدولية حوّل البلاد ساحة صراع بينها بوكالة الأطراف المحلية التي ساهمت في عرقلة أي مبادرة. ومن أهم الأسباب التي يرى همومه أنها تقف وراء فشل المبادرات، غياب الإرادة المحلية، فالطبقة السياسية وقادة الأطراف يتعاملون مع التسويات كوسيلة للبقاء في السلطة، ويتماهون فيها مع مصالح ورغبات حلفائهم من الخارج. ولذا يرى همومه أن فرص نجاح المبادرة الأممية الحالية في ليبيا مرهون في أمرين، الأول تحييد الأجندات الدولية المتنافسة، والثاني توسيع رقعة المشاركين في الحوار حول الخيارات الأربعة، لتجاوز احتكار النخب السياسية والعسكرية لمصير العملية السياسية.
