ARTICLE AD BOX
لا يجوز أن يكون الموضوع بقاء حركة حماس في غزّة، وسحب سلاحها أو احتفاظها به، ولا فرص لجنة لإدارة القطاع المنكوب، فهذه المسائل ومثيلاتٌ لها نافلةٌ عندما يقتل الوحش الإسرائيلي هناك نحو 500 فلسطيني (ليس من يعدّ الأطفال بينهم) في أقلّ من ثلاثة أيام. مذبحةٌ بهذه الشناعة، مستمرّةٌ في غضون كتابة هذه السطور، تتوازى مع تجويعٍ مميتٍ، واستهدافٍ يشنّه هذا الوحش على المستشفيات هناك، تُغلقُ أي موضعٍ لأي كلامٍ في السياسة، وفي تحليلاتٍ وقراءاتٍ في مفاوضاتٍ جاريةٍ في الدوحة، بل يصيرُ كارثيّاً أن نعتبر أن هناك مفاوضاتٍ أصلاً، وأن نغفل عن إبادةٍ تتواتر بكثافةٍ، لا لشيءٍ إلا للقتل. وما يتتابع من أخبارٍ من هناك أن جثث شهداء ملقاةٌ في الشوارع، ولا يأذن مجرمو الحرب لسيارات الإسعاف بانتشالها. والقرار معلنٌ، وفادحٌ في وضوحه، في حكومة الوحوش في تل أبيب أن تبقى محدلة التمويت إلى مدىً غير معلوم، لا يُجاز طرحُه في مفاوضات العبث المُضجرة، والتي يتمسّك فيها نتنياهو، بامتناعٍ عتيدٍ، عن أي التزامٍ بوقف العدوان، ويُحاول أن يفرض، بالإجرام النشط وإزهاق الأرواح بلا عدد، مستحيلاتٍ يُخمّنها في عقله الذي يجلس الشيطانُ القرفصاء فيه (بتعبير غسّان كنفاني).
هناك، في مهرجان كان السينمائي، أعلن، الأسبوع الماضي عشيّة افتتاحه، نحو 400 فنّان، في رسالةٍ مفتوحةٍ، إدانتهم الصمت عمّا سمّوها إبادة جماعية في غزّة. وهذا يُحرج كل من أشغل نفسه بأي حديثٍ عن "حماس" وسلاحها، وعن يوم تالٍ في غزّة تاه بين مشاريع دونالد ترامب عن "الريفيرا" والتهجير (إلى ليبيا؟)، فلا يحدّق في المذبحة، ولا يصرُخ من أجل وقفها وحسب، بتسليم الأسرى لدى المقاومة دفعة واحدة أو أقلّ، بقبولٍ غير مشروطٍ بأي مقترحٍ يريح القاتلين في الجيش الإسرائيلي من عبء وظيفتهم إياها، الجريمة تلو الجريمة. بأي صيغةٍ، فلم يعد ثمّة حيّزٌ لأي بطولاتٍ من أي نوع. ... أحدّثُ قيادياً في "حماس" بهذه اللغة، وأصارحُه بأن أول الأولويات وقف المذبحة، وإن في المقدور مغادرة الاستعصاء القاسي، عندما لا يريد نتنياهو الالتزام بوقف الإبادة وعندما ترى "حماس" هذا مطلباً يسبق تحقّقُه إفراجاً عمّن تبقّوا من الأسرى. وليس من شغلنا، في الصحافة، أن نعرف كيف يُنجَز هذا، فالأمر منوطٌ بأصحاب القرار في الحركة الإسلامية المجاهدة، المدعوّة وبإلحاح أن تبتكر الصيغة الخلاقة التي يتقدّم فيها وقف الجريمة الإسرائيلية المتمادية، عندما يُذبح 500 غزّي في ثلاثة أيام، على أي حساباتٍ أو اعتباراتٍ أو تفاصيل أو استحقاقاتٍ أو أوهامٍ أو مكابراتٍ.
ثقيلٌ جدّاً على أرواحنا وأبداننا وأفهامنا، نحن العرب، أن يصير أسر جنديٍّ صهيونيٍّ أميركي، ثم تسريحه، وأن يشتهر اسمُه في العالم، أمّ القضايا، فيما أسرُ مليوني غزّي تحت أنياب الذئب الإسرائيلي، والقتل فيهم كيفما اتفق، وألّا يستقرّ عدد ضحاياهم عند حدّ، وأن يثرثر الأميركان في أمر إطعامهم، تفاصيل على هامش قضية أسرى صهاينةٍ معدودين، فهؤلاء هم الأصل والمتن، وغيرُهم حاشية. ثقيلٌ أيضاً أن يُباغتنا نبأ تسلّم العدو الإسرائيلي من طرفٍ ما في سورية رفات جنديٍّ قُتل في معركةٍ قبل أزيد من أربعة عقود، بعد نبشٍ مديدٍ في كل سورية، فيما جثامين غزّيين، نساءٍ وشيوخٍ وأطفالٍ وشبّانٍ، تحت ركام الأنقاض منذ شهور، ولا يُقيّض لها أن تُنتشل لإكرام الميّتين بدفنهم. ...
مريعٌ كل الذي يتواتر من هناك من غزّة. وفظيعٌ أن يتراكم كل هذا الكلام المبذول عن مفاوضات تضييع الوقت وحرق الأعصاب، فيما دمٌ فلسطينيٌّ لا يُراد له أن يتوقّف عن الجريان بين أزقّةٍ وشوارع وخيام ومستشفيات، وبين ظلالٍ وزوايا وطرقات، في غزّة الذبيحة التي لم تُنكَب فقط بجرائم العدو المعلومة، وإنما أيضاً بمتاهةٍ فلسطينيةٍ مُخزية، وقيعانٍ عربيةٍ خائبة، وقواميس اللغة ومعاجمها لا يسعِفان في إشهار صراخٍ شاحبٍ في جوانحنا وحواشينا. ... رحماك، يا الله.
