ARTICLE AD BOX
الروابط العاطفية والعلاقات المُعقّدة بين الأشخاص، بعيداً عن الصخب، من أهم ما يُميّز "المستعمرة" (2025)، أول روائي طويل للمصري محمد رشاد. علاقات غير حاسمة، في بيئة مُحبطة، تمتلك جماليات رغم شدّة القبح. تبدأ أحداثه بعد الوفاة الغامضة لأب عامل، فتُقرّر إدارة المصنع تشغيل ابنه حسام (أدهم شكري). يُصرّ الابن الأصغر مارو (زياد إسلام) على ترك دراسته، والعمل مع أخيه، مُهدّداً أمه وشقيقه بالانتحار إذا منعوه. ما الذي يدفع الصبي (12 عاماً) إلى ذلك؟
مشهد تهديد مارو بالانتحار يستهلّ الأحداث، وينتهي بلقطة يده حاملة مطواة، يتركها تقع من بين أصابعه، بينما يرقد على السرير في حالة استسلام. بين البداية والنهاية، يبدو أنّ مارو تعلّم درساً قاسياً في الحياة. وإلا، فمن أين تأتي هذه السكينة أو الاستسلام؟ ألأنّه انتُقِم لوالده؟ أم أنّه تخلّص من الخوف بوقوع المحظور؟ أهناك حقاً جريمة أدّت إلى وفاة الأب؟ هل ثأر حسام لوالده، أم أنّ هذا انتقام القدر؟
لا شيء محسوماً. لا إجابة واضحة. هناك غِلالة رقيقة جداً بين مشاعر متناقضة، والأفعال نفسها ليست واضحة تماماً: ما حقيقة مصير المهندس المسؤول عن تحقيق أمان العمل بالآلات؟ ردّة فعل مدير المصنع وخوفه يقولان شيئاً، بينما حسام نفسه، وما يردّده العمال، يقولان شيئاً آخر. هناك عدم يقين، فما تُظهره الشاشة يحتمل هذا وذاك. لكنّ الحقيقة الوحيدة الراسخة أنّ هناك عمالاً يُستَغلَّون، ولا حماية لهم، فيدفعون حياتهم ثمن الإهمال. لا مستقبل لأسرهم، في ظلّ تسويات مجحفة، وابتزاز معجون بتهديد متواز.
عنوان الفيلم لا يخلو من تشويق، ويُحيل إلى معانٍ عدّة: عزل مرضى عن المجتمع، منطقة خاضعة لسيطرة سياسية ـ اجتماعية من شخصيات أقوى. العنوان الإنكليزي، the settlement، يحتمل بدوره قراءات عدّة، لكنّ المعنى الأقوى، وفق المضمون: التسوية. ففي مشهد لقاء حسام أصدقاءَه على سطحٍ، يُشاهدون شجاراً عنيفاً يكشف حالة مكانٍ فقير مُنهك ومتهالك يعيشونها، يقول أحدهم، مُنتقداً تصرّف صديق لهم: "لا أدري كيف يقبل إنسان العوض (الفدية) في شخص من عائلته قُتل. فبدلاً من التقدّم بدعوى ضد الشركة، للقبض على المسؤول ومحاكمته، يقبل مالاً لا فائدة منه".
هذا يُصيب حسام بمقتل، ويضعه في مواجهة مؤلمة مع نفسه. يشعر أنّه يبني مستقبله على وفاة والده، ويحاول تغيير ماضيه والتصالح مع المجتمع، على حساب الثأر لوالده. ردات أفعال الأصدقاء، التي تلوم المتحدّث، تؤكّد ذلك، فالفيلم إدانة للصمت على الفساد القانوني، وعلى من يقبض ثمن السكوت، وإنْ كان هزيلاً. حتى إنْ كان الشخص محروماً ومقهوراً ومغلوباً على أمره. إحدى الدلالات المتوارية في إدانة هذا الخنوع تُفسّر بمستويات أخرى، سياسية ـ اجتماعية، يُمكن إعادتها إلى الصمت عن حقوق شهداء ثورة 25 يناير (2011)، وغيرهم من ذوي الحقوق الضائعة.
بعد صمت طويل، ينفجر غضب حسام في وجه مارو، الذي لا يعبأ به. فرغم صغر سنه، واغتيال طفولته بسبب الفقر وبشاعة الرأسمالية المتمثلة بالمصنع، يُدرك الكثير. لديه نضج باكر، يُشعره بالمسؤولية إزاء أخيه وأمّه. يقرأ مشاعر الناس ودواخلهم، ويُدرك أنّ العمال في المصنع يخشون حسام ويهابونه، رغم أنّ الأخير يخجل من نفسه، بسبب نظرتهم إليه، والسمعة السيئة التي تلاحقه.
مارو أقرب إلى والدته، كأبيه. ورغم ما أشيع عن تصرّفات سيئة لشقيقه، يُحبّه، ويشعر بالمسؤولية تجاهه، فيرافقه لحمايته. في أعماقه، يخشى عليه من مصير والده، وربما يرى فيه أباً بديلاً. اللقطات بينهما جميلة وساحرة، تشي بقوّة هذه العاطفة.
علاقة الأم بحسام شديدة الارتباك. لا ترتدي الأسود لوفاة زوجها، بل فقط عند شعورها بفقدانها ابنها، بعد محاولاته اليائسة الاندماج في مجتمع يرفضه، ولا يقبل البدايات الجديدة، فيظلّ يحاكمه على ماضيه. تخشى الأم أنْ تخسره، وألا يعود. تخشى الوفاة الثانية للأب. لذا، تحاول التقرّب منه، وهو يستجيب برهبة وحذر. في مشهد رقيق وبديع، تطلب منه وضع المرهم على ساقها المتورّمة.
تتكشّف العلاقات بين الشخصيات تدريجياً، بروِيّة وهدوء، وبمشاهد مُشبعة بالزمن النفسي التأملي المنضبط، الذي يبدو صادقاً وواقعياً. لقطات تزدان بصرياً بجماليات، وإضاءة (تصوير محمود لطفي) تضفي جماليات خاصة على أجواء المصنع، مع صوت الآلات، والرذاذ اللامع الملتهب المتناثر منها، وعلاقة الآلات بالعمال. كأنّ مصيرهما مرتبط. علاقة يتلاشى فيها الفاصل الحاد بين الطرفين، إذْ يبدو حسام مُلتحماً بالآلة، كالآخرين. كأنّهم والآلات واحد. يُحقِّق التصوير والإضاءة تلك الشاعرية، والمونتاج (هبة عثمان) لا يقلّ دوره الإبداعي عن هذا في إكمال الشعور.
يكشف محمد رشاد عن مهارة واعدة في الكتابة البسيطة، المُلغّمة بالدلالة غير الزاعقة. يفاجِئ بممثلين غير محترفين، يجعل أداءهم محترفاً، لا يُمكن الاعتقاد معه أنّ بعضهم يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، ما يشي باشتغال طويل معه. غاب رشاد تسع سنوات بعد وثائقيّه الطويل "النسور الصغيرة" (2016، سيرة ذاتية)، منها خمس سنوات أمضاها في إنجاز "المستعمرة" (إنتاج "حصالة" لهالة لطفي، مع جهات إنتاجية أخرى)، وهذا يَدُلّ بوضوح على صعوبة الظروف التي يُواجهها صنّاع السينما المستقلة في مصر ومعاناتهم، لكنّه يؤكد أنّ هناك شباباً وشابات لديهم أمل بقدرتهم على صنع سينما يحبّونها.
