ARTICLE AD BOX

<p>تختلف قيمة المهر في تونس حسب الشخص والعائلة والمكانة الاجتماعية (أ ف ب)</p>
بين التقاليد والطقوس الاجتماعية والتشريعات الحديثة، ومنها المطالبة بالمساواة مع الرجل، بات سؤال المهر في المجتمع التونسي محيراً بين من يراه تعبيراً رمزياً عن الحب والرغبة في بناء أسرة، ومن يعده شططاً زائفاً ومساً بكرامة المرأة.
بابتسامة خجولة قالت مبروكة (78 سنة) والوشم الأمازيغي يزين جبينها وذقنها "لما تزوجت كان عمري 14 سنة، أي قبل 64 عاماً، لم يشترط والدي أي شرط على عائلة زوجي هي فقط ’لمَّة عائلية‘ وزفاف متواضع ومهر بسيط قدره 50 مليماً"، وأضافت "المهر ليس عائقاً أمام الزواج، المهم هو التفاهم بين العائلتين وبين الزوجين".
مبروكة أصيلة من محافظة الكاف شمال غربي العاصمة لديها خمس بنات وأربعة أولاد كلهم متزوجون ومتزوجات ولديها أحفاد فيهم من بلغ سن الزواج، تنصح حفيداتها وأحفادها بحسن اختيار الزوج بصرف النظر عن وضعه المادي مستحضرة مقولة "تزوجوا فقراء يغنكم الله"، وعن المهر تقول، "هو مسألة رمزية وتعبير عن المحبة والنية الصادقة في بناء أسرة، ولا مجال للشطط فيه، واعتبرته ركناً ثانوياً في الزواج".
ومن جهتها ترى هالة (24 سنة) خريجة جامعية وغير متزوجة، أن "المهر هدية رمزية من الزوج إلى الزوجة، وهي عادة توارثتها الأجيال، واليوم لا يمثل المهر مشكلة بقدر ما باتت كلف الزواج حائلاً دون إقبال الشباب على الزواج"، وتضيف "غالب الشباب اليوم يعزفون عن الزواج نظراً إلى تغير العقلية المجتمعية، ونزوع المرأة إلى الاستقلالية المادية، وعدم الرغبة في الالتزام تجاه عائلة وزوج وأطفال"، داعية إلى "تيسير الزواج صوناً للشباب من الانحراف وحفاظاً على توازن المجتمع".
وتستغرب هالة مقاربة المهر على أنه "نوع من تشييء المرأة"، واصفة هذا القول بـ"المغالاة في منسوب حقوق المرأة"، ومؤكدة أن المهر هو فقط "تعبير رمزي اجتماعي لا يمس كينونة المرأة ومن حقوقها ومن إنسانيتها، بل هو هدية رمزية والتزام بالدين وبالتقاليد الاجتماعية".
ويعد المهر في التشريع التونسي شرطاً قانونياً للزواج، ويعرف الفصل الـ12 من مجلة الأحوال الشخصية المهر بأنه "كل ما كان مباحاً ومقوماً بمال تصلح تسميته مهراً، وهو ملك للمرأة"، كما يعد القانون المهر الذي يقدمه الزوج لزوجته "شرطاً من شروط إتمام الزواج".
المهر يختلف حسب الجهات والمرتبة الاجتماعية
ويرى أستاذ التاريخ المعاصر عبدالواحد المكني في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أن "المهر جزء من المنظومة الاجتماعية التونسية، وهو قيمة مالية أو هدايا يعطيها الزوج لزوجته لإتمام شروط الزواج، من شهود وإشهار للزواج علاوة على ركن الصداق"، مشدداً على أن "المهور تقل وترتفع قيمتها حسب الانتماء والطبقة الاجتماعية التي ينحدر منها الزوج أو الزوجة".
ويستحضر المكني أن "جهة الساحل التونسي تتميز بارتفاع المهور فيها عند الزواج لأن مصاريف تجهيز العروس مرتفعة"، وتشترط بعض العائلات في هذه المناطق ما يعرف بـ"غربال من الذهب" في إشارة إلى تعلق عائلات عدة بالذهب واعتباره رمزاً للجاه والثراء.
ويذكر أستاذ التاريخ المعاصر أنه "في القرن الـ19 كان الزوج يهدي لزوجته الخدم إلى جانب المصوغ، ويتم التنصيص على ذلك في عقد الزواج".
وأمام شطط المهور في ثلاثينيات القرن الـ20 ظهرت حركة اجتماعية مناهضة لارتفاع المهر في تونس، وتدعو إلى تيسير الزواج والتخفيض من شروطه المجحفة، وهي عادات وتقاليد اجتماعية حاولت مجلة الأحوال الشخصية عند صدورها الحفاظ على بعضها من خلال النص على أن "يقع العمل بما يجري عليه العرف في كل منطقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلفت عبدالواحد المكني إلى أن "بعض العائلات في تونس لها صداق مخصوص مثلاً ’الصداق المخلوفي‘ في العامرة من محافظة صفاقس، و’الصداق المحجوبي‘ في جهة جبنيانة من المحافظة نفسها، ويرتفع مهر المرأة عندما يكون لها نصيب مهم من الميراث أو تتحدر من عائلة ثرية".
ما حكاية مهر 69 مليماً؟
وفي المقابل ظهر ما يعرف بالمهر الرمزي وفق "طريقة سيدي البشير"، وهو عبدالله بن عبدالرحمن السعدي الونيسي المشيشي أصيل منطقة زواوة، من بجاية الجزائرية، وقدم إلى تونس ودرس الحديث والفقه، ثم اعتزل للعبادة والزهد، وعمل على إصلاح منظومة الزواج وتخليصها من شوائب الطمع في المال والأرزاق، فأوعز إلى القبائل التي هاجرت معه من الجزائر إلى تونس، بألا يشترط أحد من أهلها لتزويج بناته، أكثر من مبلغ يعادل 69 مليماً، وألا يطلب من خاطب ابنته هدايا ذات قيمة، باستثناء ما يقدمه عن طواعية من مواد استهلاكية.
وأصبحت هذه العادة بمثابة الطقس الاجتماعي وانتشرت في عدد من جهات تونس وبنزرت وباجة، حيث يقدم الزوج يوم عقد القران ما يسمى في تونس "العقيرة"، وهي ذبح عجل وما تبعه من لوازم وتقديمها إلى عائلة العروس.
ويشير أستاذ التاريخ المعاصر إلى أن "بعض العائلات المتصاهرة تتفق فيما بينها على التخفيف في المهر، بينما تتمسك عائلات أخرى بقيمة عالية للمهر، وهو ضمنياً نوع من التعجيز في حال لم تكن العائلة راغبة في تزويج ابنتها من الشخص الذي يطلب يدها".
هل يمس المهر من كرامة المرأة؟
وبينما يعد المهر قيمة رمزية لا يحول دون إتمام الزواج يرى البعض أنه يمس بكرامة وإنسانية المرأة، وهو ما ذهبت إليه في وقت سابق لجنة الحريات الفردية والمساواة في تقريرها النهائي لعام 2018، من أن المهر في الزواج هو "إحدى ثلاث مسائل تستحق المراجعة لتخليص شروط الزواج من بعض الحلول التي تمس بكرامة المرأة وحقها في المساواة التامة مع الرجل".
وتستند هذه المقاربة إلى أن مجلة الأحوال الشخصية استلهمت من النص الديني، بينما المرأة والرجل يتقاسمان المسؤولية في بناء أسرة، بخاصة بعد خروج المرأة للعمل وتحملها جزءاً مهماً من أعباء الأسرة.
ويطالب المدافعون عن هذه الرؤية بضرورة انسجام مجلة الأحوال الشخصية مع الدستور، وبخاصة الفصل الـ23 الذي ينص على أن "المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات".
وتؤكد المتخصصة في علم الاجتماع وعضو الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات فتحية السعيدي أن "المهر موجود في الثقافة العربية الإسلامية والمجتمع التونسي، وهو معلوم يُدفع للزوجة في إطار منظومة تقليدية، وكنوع من إضفاء قيمة على المرأة، إلا أنه هو في جوهره يعني العكس تماماً، ففي ثقافتنا وفي تراثنا، فإن عقد الزواج هو عقد نكاح، والمهر هو نوع من الاعتراف أو الأجر الذي يعطى مسبقاً مقابل وظيفة محددة تتم بن الزوجين، ومن هنا جاءت فكرة المطالبة بإلغاء المهر من قبل عديد من الحقوقيات والمدافعات عن حقوق المرأة اللاتي يعتبرن أن المهر هو نوع من تشييء النساء وكأن العملية هي نوع من البيع والشراء".
وقللت فتحية السعيدي من أهمية هذه المطالب واعتبرتها غير ملحة في الوقت الراهن، فإنها لمحت إلى إعادة المطالبة بإلغاء المهر، في حال توجهت الدولة إلى تغيير القوانين التي تمس بحقوق المرأة في سياق المطالبة بالمساواة مع الرجل، ووضع حد لما تسميه الهيمنة الذكورية.
تاريخياً، كان المهر مجالاً للمغالاة والتفاخر بين العائلات والقبائل، إلا أن هذه التقاليد والطقوس اندثرت عبر الزمن، وبقي بعضها راسخاً لدى بعض العائلات، إلا أنه أصبح تعبيراً رمزياً لا يحول دون إتمام الزواج الذي بات شأناً مكلفاً بالنسبة إلى الشباب التونسي، إذ تشير الدراسات إلى أن كلفة الزواج تتجاوز الـ50 ألف دينار (17 ألف دولار)، مما دفع عديداً منهم إلى التأجيل أو العزوف النهائي.