الورق ورقهم... فهل نصدّق المكتوب؟

4 days ago 3
ARTICLE AD BOX

لا يملّون من انتهاك البديهيات، ولن نملّ من حمايتها. لا يملّون من تغييبها، ولن نملّ من استعادتها. لا يملّون من محاولات استحمارنا، ولن نملّ من محاولات الاحتفاظ بحقّنا في أن نكون بشراً لا ظهوراً للراكبين، أو الظالمين.
يحاول النظام في مصر (عبر أدواته) أن يعيدنا إلى تصوّراته عن الدولة، دولة مالك يوم الناس، الذي يملك الورق ويملك الدفاتر، فيكتب التاريخ وحده، ويُملي على الواقع وحده، ويصدر توجيهاته للمستقبل، ويخبرنا بـ"الحقيقة" التي لا يعرفها سواه، وتصبح الدولة منحةً لا عقداً. يحاول النظام فينجح أحياناً، لأنّنا ساكتون (أو مشاركون)، ويفشل أحياناً، لأننا حاضرون، ولأن محاولاته أكثر رداءةً من أن تحقّق المطلوب.
نجيب من الأول: ليست المشكلة في ما يفعله الحاكم فحسب، بل في النظام الذي يسمح له أن يفعل ما يشاء، من دون مراقبة ومن دون نقد ومن دون محاسبة. ليست المشكلة في أنه خيّر أو شرّير، بل في النظام الذي يسمح له أن يكون خيّراً وقتما شاء، وشرّيراً وقتما شاء. فاعلاً وقتما شاء، وخاملاً وقتما شاء، مانحاً وقتما شاء، ومانعاً وقتما شاء. المشكلة في النظام الذي يفرض علينا أن نصبر على السفاهات، ونشكر على الفلتات، ونبرّر الفضائح والمصائب والهزائم والإخفاقات، وندعم ونهلّل ونكّبر فيما دون ذلك. ليست المشكلة في "محتوى" ما يكتبه الحاكم في صفحات عهده التعيس أو السعيد، المشكلة أن الورق ورق الحاكم، والدفاتر دفاتر الحاكم، فكيف يمكن أن يصدّقه المحرومون من حقّ الكتابة؟
ما أصعب مهمّة "قوات الدعم السريع" للنظام المصري الحالي، أو "الكتائب الإلكترونية" كما سمّاها صاحبها، فالنظام لا يمنحهم "مادّة" يشتغلون عليها، أغنية بلا كلمات، وعلى الملحّن أن يتصرّف، لحن بلا إيقاع، وعلى ضابطه أن يُطبّل، ممثّلون بلا نصّ، وعليهم أن يؤدّوا، وأن ينجحوا، كيف ينجحون؟
يستدرجنا خطاب التبرير إلى التعامل مع النظام "بالقطعة"، فهذا هو "الإنصاف"، أو هذه هي "الوطنية"، أو "الممكن"، والسياسة فنّ الممكن. ربّما كان من الممكن أن يمرّ النظام بذلك كلّه لو كان المطلوب هو التوقّف عن ردّ القرارات إلى آلياتها، وتجميد حسابات المواطنين في خزائن النظام، وقت الحاجة إلى تصريفها في "مصالح مشتركة"، لكنّ المشكلة أن النظام وأدواته لا يكتفون بذلك، إنّما يتجاوزونه إلى محاولة غسل جرائمهم واستصدار حكم براءةٍ من محكمة الذاكرة الجماعية، فالرجل افتتح كوبري، وبائع الأرض لم يعد خائناً فقد بنى مسجداً، والسجّان لم يعد سجّاناً فقد رفض تهجير الفلسطينيين، وباني القصور بالديون لم يعد فاشلاً أو مخرّباً أو مديوناً فقد اتصل ليطمئنّ على صحّة صنع الله إبراهيم.
ما الفارق بين تبرير دعم النظام الفاشل بـ"حنيّة قلبه"، ولفتاته الطيبة جدّاً، وتصريحاته الـ"أحسن من غيرها"، وتبريره لأنه متديّن و"بتاع ربّنا"؟ ما الفارق بين "على الرغم من اختلافنا مع النظام لكنّه وطني وشريف ومخلص وخلّصنا من الإخوان"، وبين "رئيسكم يصلّي في جماعة ألا تكبّرون؟ رئيسكم ملتح ألا تكبّرون؟ رئيسكم يحفظ القرآن ألا تكبّرون؟ أليست هي "الريفية السياسية" نفسها، سواء ادّعت الوطنية، أو اختبأت وراء الإسلاموية، أو وقفت وراء الكابتن إبراهيم حسن، لتقول بوضوح: "اعتبره أبوك يا أخي؟".
ربّما يكون من "حكمة المضطر" أن يسكت عن "نصف العمى" تفادياً للعمّى الكلّي، وانتظاراً لفرصة التداوي، أن يسكت لا أن يبرّر، أن يسكت لا أن يمرّر، أن يسكت لا يهلّل ويكبّر ويتقافز في مواكب الفتوات والبلطجية وقطاع الطرق (اسم الله عليه اسم الله عليه)، متسولاً إنصافاً كاذباً، أو وطنيةً مغشوشةً، سكوتاً مؤقّتاً، مشروطاً، حذراً، واعياً، دائم الترقّب والتشكّك، والأخذ والردّ والمراجعة. والسكوت هنا هو أقصى درجات "الدعم الممكن" لمن أعمونا بعد رؤية، وأفقرونا بعد أمل، وأذلّونا بعد ثورة، كما أنه التنازل الوحيد الذي نكسب فيه شيئاً من حقوقنا من دون أن نخسر شيئاً من كرامتنا.

Read Entire Article