ARTICLE AD BOX
يرتبك القارئ من دون أن يكون متأكداً أيهما يقود الآخر في رواية الشاعرة والكاتبة المصرية إيمان جبل "اليد العليا"، أو أيهما جوهر هذا النص المتخيَّل. ومن أيّ مادة صنعت الكاتبة عالم روايتها؟ من مادة الأحلام، أم عبر الاستعانة بالفنون نفسها؟ فالرواية الصادرة عن منشورات المتوسط حكاية مخرجة سينمائية تُقاد إلى المنفى، والنص يمثل صراعها مع هذا المنفى بأداتي الحلم والسينما.
المنفى هنا مبني على السياق الواهم ذاته، وكأنما مسعى الرواية أن تجعل من الواقع نفسه موضوعاً للأحلام، ثم تعيد توليف تلك الأحلام في أفلام أنجزتها فاني موسى، شخصية الرواية الأساسية، في خمسة أعمال سينمائية. نعرف هذا العدد من الأفلام ثابتاً حتى نهاية الرواية، حين تشرع في كتابة الفيلم السادس، وكأنما تحررت أخيراً عبر السرد من مادة أرقها، وكأنما الرواية هي عبور الأحلام إلى السينما. فهي لا تأخذ الواقع كله، بل في روايةٍ لا نعرف مكانها أو زمانها، وعددٌ من الشخصيات يبدو غير مصري، نجد أن المادة التي أخذتها الكاتبة لتنجز بواسطتها هذا النص، هي أرق الواقع، وإزعاجاته، وقضاياه الملحّة، لا الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي بذاته.
ولربما أكثر تلك القضايا إلحاحاً هي مسائل التمييز ضدّ المرأة. إذ تختار الكاتبة لتقول هذا علاقة تُصدَّر في الثقافة على أنها علاقة مقدسة، وهي الأمومة، وعبر علاقة فاني بوالدتها. إذ يمضي النص كله والقارئ يتساءل عن السبب الذي جعل الأم تتعامل مع ابنتها على أنها ذكر اسمه موسى، والصفحات الأخيرة تحسم الشك.
رواية لا نعرف مكانها أو زمانها، وشخصيات لا نعرف أصولها
منذ البداية تظهر فاني موسى بأنها تعاني من دون أن يقدر القارئ على تحديد السبب الدقيق لتلك المعاناة، إلى درجة تبدو فيها معاناتها مع جسدها نفسه، مع تقبّله، ثم مع قبولها تحويل جسدها إلى وعاءٍ يحمل سيدات غيرها، أرادهن شريكها الجرّاح. ثم يظهر عطب تلك العلاقة بصورة خاصة في علاقتها بزوجها آدم الذي أحبها كما لو أنها ثيمة فيلمية، موضوعها الأم العذراء، إذ لا جنس بينهما. لكن وجهاً آخر للمعاناة يظهر في تواصلها مع أمها، وفي ذكرياتها عن أبيها الميت. وكأنما وصلت فاني إلى هذه الحياة على أساسٍ مشروخ، وكأنما قد حلَّت بالمبدأ في وجودٍ مبتور، قد بتره موت الابن، موت أخيها الذي جاءت هي تعويضاً عنه.
بهذه الصورة، تعطي الكاتبة قارئها العديد من المفاتيح لقراءة الحكاية التي تبدأ مع المنفى. والمنفى هو عيشها في ذاكرة أحدٍ آخر، أو بصورة ما؛ هو دفعها إلى أن تعيش في وعي إنسان آخر، في محاكاة لحياة كانت مرغوبة من أحدٍ غيرها. وكأنما النص يدفع القارئ إلى قبول الخسارة، ويخبره باستحالة أن تسير الحياة بالصورة التي نرغب أن تكون عليها. في النهاية، الموت يحدث، الحب يحدث، تغيير الأفكار والقناعات والأشخاص كلها أمور تحدث في الحياة، ولا سبيل إلى توقّعها، حتى داخل برنامج محاكاة عبّرت عنه الكاتبة بالمنفى. وقد استطاعت فاني أن تفاجئ والدتها التي سخّرتها لإشباع رغبتها في استعادة الابن من عالم الموت، في تجربة نفسية هدفها دحض فكرة الألم، إلا أنّ الألم، أخيراً، لا يُدحَض، بل يعيد ابتكار ذاته.
قبل أن يكتشف موسى، مع وصوله سنّ البلوغ، أنه أنثى بالولادة، وأن والديه قد صاغا من أجله/أجلها عالماً ذهنياً، وأحكما عليه/عليها بهوية لا تتوافق وطبيعته/طبيعتها؛ يتهيأ للقارئ أن ما تعيشه الشخصية نوع من اضطراب الهوية الجنسية. لكن مع تقدم الرواية، يتغير ذلك الاضطراب في الهوية ليصبح نوعاً من النزاع الذي زرعته الأم داخل ابنتها.
مع ذلك، يبقى طموح الرواية واضحاً في سياقٍ من تساؤلات شخصية وحميمة، وهو أن تقتص من سردية الأم، إذ إنّ فاني موسى ترى نفسها، أخيراً، كينونة مضادة للجنس. وتلك الكينونة المضادة للجنس تجعل من وجودها انتقاماً من الأم، باستعارة كلمات وول سينيكا: "أمّي!/ سأتحوّل إلى أفعى مبتهلة/ تلتف حول نفسها على عتبة الباب/ وتجعلك تصرخين صرخات قاتلة". طموح الرواية، إذاً، أن تنسج ذلك الانتقام بمادتي الأحلام والسينما.
* روائي من سورية
