انتحار العقل

1 week ago 3
ARTICLE AD BOX

هل ثمّة عددٌ من القتلى، ما إن يبلغه ضحايا الحرب حتى يُعتاد عليهم، فإذا هم يتبخّرون كأنّهم لم يكونوا؟ ذاك ما يحصل في هذه الأيّام، بالنظر إلى عالمٍ ما انفكّ يلتمس الأعذار للوحش، ويشيح عن معاناة ضحاياه قتلاً وتجويعاً، كأنّه بين متعوّد وغير مكترث. لقد اعتاد العقل الإنسانيّ أن يستنكر ويشجب بشدّة هذا التكيّف اللامعقول مع الوحشيّة، فلماذا يشيح عن الفلسطينيّين؟ لماذا يُمنح الفرصة تلو الأخرى لإبادتهم؟ هل يمكن أن نجد تسميةً لهذا الذي يحدُث أفضل من إفلاس عالَمٍ يشهد على انتحار عقلهِ في غزّة؟

لم يظهر مصطلح "انتحار العقل" بشكل حرفيّ إلا في بعض السياقات، باعتباره "انتحاراً للفكر". ظهر ذلك على سبيل المثال، في كتابات المفكر اليوناني الفرنسي كورنيليوس كاستورياديس (1922-1997)، الذي تحدّث عن انهيار العقل الغربي بسبب عدم استخدامه مصدراً للمعنى. كذلك قُورِب هذا المصطلح عربيّاً، خصوصاً بعد نكسة 1967، لدى كتّاب مثل أدونيس (1930) الذي اعتبر إغلاق باب الاجتهاد انتحاراً للعقل الفلسفي. إلا أنّ المقصود بهذا المصطلح في هذه السطور بلوغ العقل حَدَّهُ في تحمّل إفلاسه الإيطيقيّ تحديداً، وعدم قدرته على مزيدٍ من تسويف الردّ الحاسم على جريمة الإبادة الواضحة التي ترتكب بتواطؤ جماعيّ، في إعادةِ إنتاجٍ لاستعارة "الحصان الميت"، حيث يتظاهر الأشخاص المجتمعون حول جيفة الحصان بأنّهم ليسوا واثقين من موته، وأنّ الأمر يحتاج إلى نقاش.

كان شعارُ العقل "أنا أفكّر إذن أنا موجود"، قبل أن تبلغ الديمقراطيّات الغربيّة سنّ الخرَف، وتُفرّط في هذا الشعار لشركات الأجهزة الذكية. شعار اليوم هو "أنا أبيع وأُبيد إذن أنا موجود". أمّا التفكير، فثمّة تطبيقات خوارزميّة تصلح له. لستَ في حاجة إلى المنطق في "ما بعد العقل". تحتاجُ فقط إجادة التفريق بين الدمين، الثمين والرخيص، بين العِرْقين، النبيل والدنيء، بين الشعب المختار والحيوانات البشريّة! وإذا كان الغزاةُ وشركاؤهم أيّامَ الكولونياليّة الكلاسيكيّة يشعرون بشيء من الخجل أمام منظومة القيم الكونية، ويعتمدون على مبرّرات خطابيّة: "جئنا نعمّر الأرض ونمدّن الشعوب"، فإنّهم اليوم بلا خجل. القويّ ينتزع ما يحتاج إليه عنوة وعلى الآخرين القبول بذلك أو الموت. يُصارحونك بهذا من خلف تكشيرات دبلوماسيّة، وكأنّهم قرأوا "الأمير" لميكافيلي، ثم مسحوا به الطاولة بعد أن تجاوزوه بأشواط.

انتحار العقل بهذه الصيغة متزامنٌ مع تقوقع الفنّ على حدائقه وحرائقه الداخليّة. القتلةُ الذين نحروا العقلَ نحرُوا الفنّ أيضاً أو "انتحروه"! فَنُّ ما بعد العقل هو فنُّ ما بعد المعنى. الغريب أنّك تجد من يفخر بذلك ويؤثّم مخالفيه. شِعرٌ يقيم في العالم وآخر يتكوّر على سرّته كأنّه ليس من العالم. رَسْمٌ يقاوم القبح وآخر يشيح عمّا يجري كأنّه لا يعنيه. غناء يعيش ما يعيش الناس وآخر يتأوّه على إنستغرام. مسرحٌ يكاد يموت مع موت الحوار. سينما تكافح وأخرى توثّق لقطّةٍ دهستها شاحنة ولا تأبه لطفلةٍ تحت دبّابة. قريةٌ أكاديمية تعاني مثل الساحة الثقافيّة من أجل تحليل كلمة "احتلال". أمّا الصهيونيّة، فلا يمكن مناقشتُها، لأنّ أيّ نقاش لفكرة الصهيونيّة معاداةٌ للساميّة! ولإسرائيل الحقّ في الدفاع عن مصالحها حتى داخل أرحام الفلسطينيّات "الحوامل"! أمام هذا كلّه، ليس للملاحظ إلا الإقرار بأنّ العقل غائبٌ أو مُغيّب، ولعلّه اغتيل، ولعلّه انتحر لأنّه ما عاد يَحتمل كلّ هذا الخِزيِ المتغطرس المعربد.

هل ثمّة أمل؟ ربما. بل لا مناص من الأمل. انتحار العقل يعني ولادة عقل آخر أكثر إصراراً وأكثر تعلّماً من ذاكرته واحتكاماً إلى خياله. عقل يعلم أن الطريق لن يكون سهلاً، وأنه سيعاني المزيد، لكنه يعلم أيضاً أنه سيظلّ هناك في كل لحظة، عندما يقرّر الإنسان أن يتذكّر النور الذي في داخله. لكن ليس في قاعات الأمم المتحدة كما هي اليوم. ربّما في الأزقّة، في العيون التي ما زالت تعرف كيف تميّز الظلم من دون مسطرة الألوان. ربما في صوت طفل يتغنّى بعبارة "حرية مقاوِمة"، حتى وهو يعلم أنها مُدرجةٌ على قائمة الإرهاب. أما في الميتافيزيقا الغربية، فقد أشهرَ العقلُ تقاعده حتى إشعار آخر. حتى إشعار الخروج من زمن انتحار العقل. زمن يُوَزّع فيه الحقّ بحسب العُملة، والدمُ بحسب البورصة، والقيمُ بحسب الجهة الجغرافيّة من الموت.

Read Entire Article