ARTICLE AD BOX
"ليلة كانت من أصعب ليالي عمري. كنت في العناية المركزة، حولي وجع لا يمكن وصفه. في نفس اليوم وفي نفس الساعات رأيت بعيني اثنين من المصابين يفارقان الحياة. رأيت كسرة أهلهما أمامي بمجرد سماع خبر وفاة ذويهم... أرى الوجع من حولي وفي داخلي... وحتى الآن لا أستطيع استيعاب الموقف، وخائفة على مصير زوجي"، بهذه الكلمات وصفت ميار حسن، زوجة مصطفى حجازي، أحد ضحايا انفجار خط الغاز بطريق الواحات بمدينة السادس من أكتوبر، المشهد داخل وحدة الحروق بمستشفى أهل مصر، حيث ترقد إلى جوار زوجها منذ أسبوعين دون أن ترى مسؤولًا حكومياً يطمئنها أو يعدها بتعويض، أو حتى يعلن أن الدولة تقف إلى جانب المصابين. تضيف ميار، التي تحولت إلى صوت لمعاناة أسر الضحايا: "منذ 14 يومًا ونحن في مستشفى (أهل مصر)، وحالة زوجي حرجة للغاية. لم تأتنا جهة رسمية واحدة لتقول لنا: نحن معكم، أو حقكم محفوظ. زوجي يتلقى علاجًا في مستشفى خيري، بفضل هبة السويدي وفريقها، الذين كانوا السند الوحيد حتى الآن".
هذه الشهادة التي سرعان ما لقيت تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، سلطت الضوء على ما يعتبره سكان أكتوبر "جريمة مركبة" لا تقف عند حدود الإهمال الفني، بل تشمل غياب التنسيق المؤسسي، وانعدام الرقابة، وتهرب الدولة من مسؤولياتها تجاه من احترقوا أحياء في انفجار كان يمكن تفاديه.
تبدو مدينة السادس من أكتوبر، وهي واحدة من أكبر مدن التوسّع العمراني في مصر، منطقةَ نمو سريع فوق بنية تحتية هشة. فخلال أسبوعين فقط، وقع انفجارا غاز مروعان على مسافات متقاربة وفي ظروف شبه متطابقة، بسبب حفر عشوائي فوق خطوط الغاز أو النفط، دون وجود خرائط أو إشراف أو تنسيق مع الجهات المعنية.
أكد سكان من منطقة حدائق أكتوبر القريبة لـ"العربي الجديد" أنهم شمّوا رائحة غاز قوية قبل الانفجار بأيام
وحتى كتابة هذه السطور، ارتفع عدد ضحايا الانفجارين اللذين وقعا يومي 30 إبريل/نيسان و11 مايو/أيار، إلى ثمانية قتلى، فضلًا عن عشرات المصابين، بعضهم في حالات حرجة يعانون حروقاً من الدرجتين الثالثة والرابعة، في مستشفيات لا تتحملها ميزانية وزارة الصحة، بل مستشفيات خيرية تعتمد على التبرعات.
وأكد سكان من منطقة حدائق أكتوبر القريبة لـ"العربي الجديد" أنهم شمّوا رائحة غاز قوية قبل الانفجار بأيام، وتقدموا بشكاوى رسمية إلى شركة الغاز وجهاز المدينة، دون أن يتحرك أحد. تقول سيدة تقيم على بعد كيلومترات قليلة من موقع الانفجار: "نعيش وسط قنابل موقوتة. لمجرد أن سائق لودر قرر الحفر، نحترق. حياة الناس أرخص من التنسيق بين شركتين!".
الدولة غائبة والمحاسبة جزئية في انفجارات خطوط الغاز
رغم بشاعة الحادث، والذي تكرر أكثر من مرة بمدينة 6 أكتوبر وما حولها، في حدود 30 كيلومتراً، لم يصدر أي اعتذار رسمي من الحكومة، ولا إعلان عن خطة تعويض للضحايا أو ذويهم، أو حتى إحالة مسؤول حكومي واحد للتحقيق. وبدلًا من ذلك، اكتفت السلطات بحبس مقاول وسائق لودر ومهندسين اثنين، بتهمة الإهمال الجسيم، وكأن أربعة أفراد فقط يتحملون كل تداعيات كارثة وقعت داخل نطاق مسؤولية جهاز مدينة، ووزارة بترول، وشركات مقاولات، وجهات إشراف هندسي.
في المقابل، شكلت نقابة المهندسين لجنة تقصي حقائق، وقالت في بيان رسمي إن المعاينة الميدانية كشفت غياب لافتات تحذيرية أو إشارات دالة على وجود خطوط غاز، وغياب التنسيق بين شركات المقاولات وجهات البنية التحتية. ولفتت النقابة إلى أن خط الغاز تعرض للكسر أثناء أعمال الحفر، وتم ردمه دون إخطار الجهات المعنية، مما تسبب في تسرب كثيف للغاز لمدة يومين متتاليين، وانفجار لاحق راح ضحيته مواطنون أبرياء. وتجاهلت النقابة الأسباب التي تدفع مقاولي الباطن، لتنفيذ الحفر دون الرجوع إلى الجهات الرسمية القادرة على تحديد مسارات خطوط المياه والكهرباء والغاز والهواتف التي تمر في مسار الحفر، لأن جهة الإشراف والإسناد للمشروع تابعة للأجهزة السيادية والأمنية، التي تتصرف بالأوامر المباشرة، دون أن يقدر أي مسؤول على التدخل في أعمالها، ولو كانت مخالفة للأصول المهنية.
مستشفيات خيرية تعالج مصابي انفجار خط الغاز
بينما تكتفي وزارة الصحة، بإحصاء أعداد المصابين والوفيات، كانت مستشفى "أهل مصر" للحروق والقائمة على التبرعات، والتي أسستها هبة السويدي، تخوض معركة يومية لإنقاذ ضحايا الانفجار. وكتبت السويدي، في منشور مؤلم: "فقدنا سما، وبعدها بساعات منة... بنتان في مقتبل حياتهما راحتا نتيجة إهمال أدى بحياتهما للهلاك. الأطباء والتمريض والإداريون كانوا منهارين من البكاء. عزاؤنا الوحيد أنهما شهيدتان، وأننا خدمناهما حتى اللحظة الأخيرة".
سما عادل (23 عامًا) كانت في طريقها للقاء صديقتها، تستقل "ميكروباصًا" تحول في لحظات إلى جمرة مشتعلة. قضت 13 يومًا تصارع الحروق من الدرجة الرابعة، قبل أن تلتحق بقائمة الضحايا المتوفين. منة أيمن (25 عامًا)، كانت مع جدتها التي توفيت في موقع الانفجار، ولم تصمد بدورها سوى 15 يومًا في غرفة العناية المركزة. تحول الحادث إلى قضية رأي عام، وسرعان ما أصبحت تدوينات أهالي الضحايا متداولة على نطاق واسع. تصدر وسم "#انفجار_الواحات" و"#ضحايا_الحروق" قوائم الاهتمام على منصات فيسبوك وتويتر، وامتلأت التعليقات بأسئلة عن غياب الدولة، وغياب التعويض، وغياب المسؤولية.
وفي تحليل فني مفصل، كتب المهندس هشام علي، استشاري نظم السلامة، أن الحادث يُظهر خللًا هيكليًا في تطبيق إجراءات الأمان. وأوضح أن موقع الحادث يُعد "مكان عمل" خاضعًا لقانون العمل 12 لسنة 2003، وكان ينبغي التنسيق مع الجهات الرسمية قبل أي حفر. واعتبر أن غياب اللافتات، وسوء الإشراف، وعدم الرجوع لخرائط البنية التحتية، كلها عناصر تفضح الإهمال المؤسسي. مشيرًا إلى أن القانون الجديد رقم 14 لسنة 2025 قد يوسع تعريف "الحادث الجسيم" ليشمل المتضررين من المارة، بما يعزز من إمكانية ملاحقة الشركات وليس الأفراد فقط، وهو ما يطالب به أهالي الضحايا منذ اللحظة الأولى.
أما الأسباب المباشرة والجذرية للحادث، فلخصها استشاري نظم السلامة وعضو اللجان العليا لنقابة المهندسين، بقوله: "الأسباب المباشرة: تتمثل في اصطدام لودر بأنبوب الغاز أثناء أعمال حفر غير منسقة مع شركة (ناتغاس)، وتسرب الغاز لمدة يومين دون إبلاغ الجهات المختصة، مما زاد من تشبع الهواء بالغاز. واشتعال النيران بسبب ارتفاع درجات الحرارة وكثافة المرور". والأسباب الجذرية، طبقًا لرؤية الاستشاري الفني، فتتلخص في "إهمال إجراءات السلامة، وغياب علامات تحذيرية أو إشارات إرشادية تدل على وجود خط غاز. وعدم التنسيق بسبب عدم الرجوع إلى مركز المعلومات التابع لجهاز المدينة للحصول على خرائط البنية التحتية. وسوء الإشراف بسبب عمل سائق اللودر بدون إشراف هندسي، مما يعد مخالفة جسيمة. وتقادم البنية التحتية مع احتمال وجود عيوب في الأنابيب بسبب الاستخدام الطويل أو الصيانة غير الكافية".
أرقام مأساوية
على مدار أسبوعين، تحولت مدينة السادس من أكتوبر إلى مسرح كارثي لانفجارين متتاليين في خط الغاز الرئيسي بطريق "الواحات – غرب سوميد"، أسفرا عن سقوط عدد من الضحايا وتسجيل إصابات مروعة بحروق بالغة، في واحدة من أسوأ حوادث الإهمال العمراني في السنوات الأخيرة.
وقع الانفجار الأول يوم الثلاثين من إبريل/نيسان الماضي، بينما تكرر المشهد المأساوي في الحادي عشر من مايو/أيار الجاري على مقربة من نفس الموقع. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، ارتفع عدد ضحايا الحادثين معًا إلى ثمانية قتلى، وفق ما أعلنته وزارة الصحة المصرية، بينهم الشابتان سما عادل (23 عامًا) ومنة أيمن (25 عامًا)، اللتان توفيتا بعد أيام من الحادث داخل وحدة الحروق بمستشفى "أهل مصر"، بعد صراع مرير مع إصابات حروق من الدرجتين الثالثة والرابعة.
كما أُصيب عشرات المواطنين الآخرين، بعضهم ما يزال في حالات حرجة، من بينهم مصطفى حجازي، الذي ترقد زوجته إلى جواره منذ 14 يومًا دون أن تتلقى أي دعم رسمي أو حتى تعهّد حكومي بتكفّل الدولة بعلاج الضحايا. وقد التهمت النيران، بحسب التحقيقات الأولية، نحو 13 سيارة ودراجة نارية كانت متوقفة بمحيط موقع الحفر، وهو ما أضاف خسائر مادية واسعة إلى حصيلة الضحايا البشرية.
الإهمال يتكرر دون محاسبة
حادثا الواحات ليسا الأولين من نوعهما، بل يمثلان جزءًا من سلسلة حوادث متكررة شهدتها مناطق مختلفة في مصر خلال الأعوام الماضية، كلها ترتبط بنمط واحد: أعمال حفر أو إنشـاءات تتم دون تنسيق مسبق مع شركات الغاز أو الكهرباء، في ظل غياب لخرائط البنية التحتية، أو ضعف في إجراءات السلامة.
في يناير/كانون الثاني من العام الجاري، وقع انفجار كبير بخط غاز طبيعي داخل الحي السابع من مدينة 6 أكتوبر، إثر سقوط كابلات كهربائية على الخط أثناء أعمال إنشاء، ما أدى إلى مصرع شخص واحد. ورغم فداحة الحادث، لم يُعلن عن نتائج تحقيقات واضحة أو إجراءات إصلاح مؤسسية تضمن عدم تكراره.
كذلك شهدت محافظة القليوبية في مارس/آذار من العام 2024 سلسلة من الحرائق والانفجارات داخل محطات صرف صحي حديثة الإنشاء في مناطق القلج والخصوص والمرج الجديدة. وقد تبيّن أن السبب هو تسربات غاز لم تُرصد بسبب سوء تصميم منظومة التهوية، ما أدى إلى اشتعال النيران في أكثر من موقع، وسط صمت رسمي على ما عُد حينها "علامة خطر" في منظومة المشاريع القومية الجديدة.
أما الحادث الأشهر، فيعود إلى يوليو/تموز 2020، حين وقع انفجار هائل في خط أنابيب النفط الخام (شقير/مسطرد) على طريق القاهرة–الإسماعيلية الصحراوي، بسبب كسر في الخط الناتج عن أعمال تطوير مجاورة. وقد أسفر الحادث حينها عن إصابة 17 مواطنًا، واشتعال حرائق ضخمة شلت حركة المرور، وأثارت جدلًا واسعًا حول غياب قواعد التنسيق والتأمين في مواقع الحفر.
ورُصدت حوادث أخرى في مناطق مثل حي الشرابية ومدينة نصر، إذ وقعت انفجارات صغيرة أو تسربات غاز ناتجة عن حفريات في غياب التنسيق مع شبكات المرافق، ما أدى في بعض الحالات إلى اختناقات بين السكان أو اشتعال محدود، وإن لم تسجل تلك الحوادث ضحايا، فإنها تمثل تحذيرات مكررة لم تؤخذ على محمل الجد.
