ARTICLE AD BOX
لم يعد قطاع غزة يرزح تحت وطأة القصف والحصار فحسب، بل بات تلوث البيئة يخلّف الموت والأمراض والأزمات، في ظلّ عدم توفر الرعاية الطبية أو الأدوية اللازمة لمكافحة الأمراض المُعدية.
لا يعاني أهالي قطاع غزة من القصف والدمار فحسب، فهناك أنواع متعدّدة من المعاناة، من بينها الأمراض المعدية التي تنتشر بصمت في الأزقة والشوارع المدمّرة، وداخل الخيام العشوائية التي تتكدّس في الطرقات، وهي تنهش أجساد الأطفال والنساء وكبار السن بلا رحمة بعد أن أصبحت بيئة القطاع مصدراً لتفشي الأمراض.
يعد اختلاط الأدخنة السامة الناجمة عن القصف بالهواء من بين نتائج الدمار الكبير الذي ألحقه الاحتلال الإسرائيلي بالقطاع طوال العدوان الممتد منذ أكثر من 19 شهراً، كما تلوثت مياه الشرب بفعل تدمير البنية التحتية، وطفحت المياه العادمة في كل الشوارع، وتحوّلت إلى مستنقعات مليئة بالحشرات الناقلة للأمراض، فيما تتكدّس النفايات، حتى أصبحت بعض الشوارع تعرف أكواماً منها.
في الشوارع المدمرة الموحلة بمياه الصرف الصحي، وبين أكوام النفايات، يصحو المئات من أطفال غزة على حكة لا تحتمل، وتقيؤ متكرر، وسط صرخات أمهات لا يجدن الدواء، فالأوبئة لا تنتظر إذناً لكي تنتشر، ولا يستأذن البعوض قبل أن يلسع الأجساد التي أنهكها التعب والجوع ومواصلة الاحتلال إغلاق المعابر الحدودية منذ الثاني من مارس/ آذار الماضي، ومنعه إدخال الأدوية والمساعدات الغذائية.
يصحو المئات من أطفال غزة يومياً على حكة أو تقرحات أو تقيؤ
يعيش الفلسطيني محمود حمد مع أسرته المكونة من أربعة أفراد في خيمة نصبها على مقربة من أحد مستنقعات المياه العادمة في مدينة غزة، ويقول لـ "العربي الجديد": "الرائحة كريهة ولا تُطاق، والحشرات والبعوض في كل مكان، ويقتحم الخيمة في كل الأوقات، ما يسبب الأمراض لأطفالي. نعيش في بيئة ملوثة، لكن ليس لدينا أيّ خيارات أخرى للمبيت، فقد نزحت من بيت حانون خلال العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، ولم أجد مكاناً إلّا قرب هذا المستنقع الذي يبعد قليلاً عن مدرسة تضم آلاف النازحين، وقد أُصيب أطفالي بأمراض جلدية، وظهرت على أجسادهم تقرحات، وحينما توجهت إلى المستشفى ولم أجد الدواء المناسب، ولا زلنا نعيش في ظل عدم توفر الطعام والماء النظيف، وحياتنا أشبه بالموت البطيء".
يشير حمد يميناً حيث مستنقع المياه العادمة، ويساراً حيث تتراكم أكوام النفايات، ويضيف: "نعيش بين مسببات الأمراض، ولا نملك حلولاً بديلة، ولا نستطيع الانتقال، وتزداد مخاوفي مع اقتراب فصل الصيف الذي تكثر فيه الحشرات، وبالتالي تتفاقم الأمراض".
يعيش الطفل سمحان أبو قمر (6 سنوات) رفقة عائلته في خيمة بمخيّم جباليا شمالي قطاع غزة، وقد أُصيب بمرض جلدي خلف تقرحات طاولت معظم أنحاء جسده، وهو يعاني من حكّة شديدة، خصوصاً في أوقات الليل، واستمرت هذه الحالة ما يزيد عن أسبوعَين، قبل أن تصحبه والدته إلى طبيب مختص بالأمراض الجلدية، وقد شخّص الأعراض بأنها نتيجة ارتفاع درجة الحرارة داخل الخيمة.
تقول والدته لـ "العربي الجديد": "قرّر الطبيب إعطاء ابني أدوية، لكنّها لم تكن متوفرة في المستشفى، فاضطررت لشرائها من إحدى الصيدليات بـ 60 شيكلاً في سبيل شفاء طفلي، لأن عدم شرائها يعني تفاقم المرض، وتفشيه في جسده أكثر".
بدوره، يعاني الطفل آدم (14 شهراً)، من نزلة معوية حادة، سببت له إسهالاً وتقيؤاً متكرّرين، وتقول والدته لـ "العربي الجديد": "توجهت إلى مستشفى الأطفال، وجرى إجراء الفحوص اللازمة له، وتبيّن أنه يُعاني من نقص في عنصر البوتاسيوم في الجسم، وذلك نتيجة انتقال فيروس وفق تشخيص الأطباء الذين قرروا إبقاء طفلي في المستشفى لمدة يومين من أجل متابعة حالته الصحية، وجرى إعطاؤه محاليل تعوّض الضعف العام الذي تعرضه له جسده خلال فترة المرض".
معاناة أخرى يعيشها الفلسطيني محمد زكي، إذ يجلس في صالة الانتظار بمستشفى أصدقاء المريض وبين يديه طفلته دانا (7 سنوات)، وهو ينتظر مناداة اسمها للمراجعة في قسم سوء التغذية، يقول لـ "العربي الجديد": "ابنتي مصابة بضمور في المخ من قبل الحرب، وحالتها حساسة، واليوم صار الوضع أخطر كونها أُصيبت بسوء التغذية نتيجة عدم توفر الأطعمة المناسبة. لم تعد قادرة على تناول الطعام بسبب صعوبات في البلع، وسوء التغذية زاد من تدهور صحتها، فلا مكملات غذائية، ولا أدوية، وحتى أبسط أنواع الطعام غير متوفرة، حتى إنّ مياه الشرب غير نظيفة، والهواء أصبح ملوثاً".
لم يكن مؤيد خالد (26 سنة) يتوقع أن يتحوّل منزله إلى سجن اختياري، لكن عدوى الجرب التي أصيب بها نتيجة التلوث البيئي المنتشر في قطاع غزة أجبرته على العزلة، يقول لـ"العربي الجديد": "حين ظهرت الحكة والطفح على جلدي، عرفت أن علي عزل نفسي حتى لا يتضرّر غيري من العدوى. إصابتي بالجرب جاءت بعد أن انتقلت لي العدوى بفعل التلوث المنتشر في الشوارع ومحيط الخيام، وهذا انعكاس لما آلت إليه الأوضاع البيئية في غزة المحاصرة والمنهكة بالحرب".
بدورها، تقول الفلسطينية أم محمد أبو زايدة التي تسكن في بيت مُدمر جزئياً، إنها تعاني من التهابات شديدة في إحدى عينيها، واشتد الألم عليها أكثر خلال العدوان، لكنّها لم تجد الأدوية اللازمة لإنهاء تلك المعاناة، وتضيف لـ"العربي الجديد": "توجهت إلى عدد من المراكز الصحية خلال فترة نزوحي إلى الجنوب، ولم أجد ضالتي في العلاج المناسب، وتعرضي المستمر للهواء الملوث أدى إلى اشتداد الالتهاب الذي أعاني منه، لذا فإنني بحاجة إلى إجراء عملية جراحية وإلّا سأفقد عينيّ، خصوصاً في ظل عدم توفر الأدوية المناسبة لحالتي الصحية".
من جانبه، يحذر مدير دائرة الصحة والبيئة في وزارة الصحة بقطاع غزة، أيمن الرملاوي، من أن كارثة بيئية وصحية متكاملة تعصف بكل مناطق القطاع، وأن الحرب أدت إلى انهيار شبه كامل في نظام الصرف الصحي وإدارة النفايات، ما جعل القطاع بيئة مثالية لانتشار الأمراض.
ويوضح الرملاوي لـ"العربي الجديد": "تعطلت مضخات المياه العادمة بسبب نفاد الوقود، وتوقفت عمليات جمع النفايات نتيجة تدمير أكثر من 80% من الحاويات ومواقع الترحيل، ما أدى إلى تكدس آلاف الأطنان من النفايات في الشوارع وحول مناطق الخيام. هذه النفايات تُنتج عصارات سامة تتسرب إلى المياه الجوفية، وتُعد مصدراً مباشراً لانتقال أمراض مثل الكوليرا، والتيفوئيد، والإسهال الدموي، والأميبيا، خاصّة بين الأطفال الذين يعانون من ضعف المناعة وسوء التغذية".
ويضيف أن "البلديات تعاني نقصاً حاداً في الوقود والآليات، ما أدى إلى انتشار مكبات نفايات عشوائية تحتوي على مخلفات خطرة، الأمر الذي ساهم في زيادة أعداد القوارض والحشرات، وكذا الكلاب الضالة في مختلف المناطق، وأصبحت النفايات مصدراً مباشراً لتلوث المياه الجوفية وانتشار الأمراض. النفايات الطبية، بما في ذلك الأدوات الحادة والمخلفات المعدية، تُلقى عشوائياً في تلك المكبات، ما يعرض حياة النباشين والسكان لخطر الإصابة بأمراض معدية مثل التهاب الكبد الوبائي والتيفوئيد".
ويشير إلى أنه "جرى إنشاء 72 موقعاً مؤقتاً و69 نقطة صغيرة لجمع النفايات، لكن معظمها يفتقر إلى الحد الأدنى من معايير الأمان البيئي، وقد دُمّرت 12 من أصل 18 وحدة دفن آلية للنفايات، وجرى تدمير أكثر من 6000 من أصل 7300 حاوية نفايات في القطاع، ويضاف إلى ذلك توقف مضخات ترحيل المياه العادمة بسبب نفاد الوقود، ما أدى إلى فيضانها في الشوارع ناقلة معها أمراضاً معوية وجلدية خطيرة، وما يزيد الوضع سوءاً هو العجز شبه الكامل في مخزون الأدوية، وعلى رأسها أدوية علاج الجرب والحساسية والالتهابات الجلدية، وأمراض الجهاز الهضمي شبه منعدمة في المستشفيات والصيدليات".
ويؤكد الرملاوي أن "المختبرات والمعدات الطبية الضرورية لتشخيص الأمراض توقفت عن العمل نتيجة انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود، ما يمنع حتى معرفة طبيعة الأمراض المنتشرة، ويتحدث أطباء عن تسجيل حالات من شلل الأطفال مرتبطة بتلوث البيئة، ما يعني أنه إذا لم يجرِ التحرك العاجل لمعالجة هذه الأوضاع، فإننا مقبلون على كوارث صحية واسعة النطاق".
