ARTICLE AD BOX
عدنان حسين أحمد
يجمع المخرج العراقي نوزاد شيخاني في فيلمه الأخير "تورِن: العودة إلى الجذور" بين قصه حُب بريئة وسردية الإبادة الجماعية الكبرى التي تعرّض لها المكوِّن الإيزيدي العراقي على أيدي العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى. ولم تكن هذه الإبادة الجماعية هي الأولى التي يتعرض لها إيزيديّو العراق وإنما سبقتها أكثر من 70 إبادة جماعية يقف وراءها الصفويون والعثمانيون والكورد والعرب، وكان آخرها المجزرة التي ارتكبها تنظيم داعش الإرهابي وراح ضحيتها ألوف المواطنين الأبرياء الذين لم يرتكبوا جُرمًا سوى أنهم وُلدوا مجبولين على ديانتهم الإيزيدية التي توحّد الله، ويمارسون شعائرهم وطقوسهم الدينية في معبد "لالش"، ويعتبرون الشمس قِبلتهم، وطاووس ملك في عقيدتهم الايزيدية هو اسم من اسماء الله.
تدور أحداث الفيلم زمنيًا منذ عام 1914م وحتى الوقت الحاضر، وتغطي ثلاثة أجيال تمثِّل الجد والابن والحفيد الذين يحملون كلهم اسم "تُورِن" الذي يعني "الإنسان الأصيل المُتمسِك بأرضه". أمّا المكان فيمتد من العراق إلى جورجيا، وانتهاءً بمعبد "لالش" حيث تتكرر مجزرة جديدة سوف يُختَطف فيها ابن الحفيد تورن ويُقتَل فيها عمه مَراز على أيدي الدواعش.
لا تقتصر ثيمة الفيلم على الإبادة الجماعية، وقصة الحُب العاطفية بين الحفيد تورن والطبيبة الجورجية "إيكا" وإنما تمتد إلى موضوع البحث عن الهُوية والانتماء العِرقي، ومحاولة العودة إلى الجذور كما يتضح من العنوان الذي يتمحور عليه الفيلم. وأكثر من ذلك فإن الثيمة الرئيسة تتمحور على فن الرسم كعمل إبداعي سوف يُكتب له الخلود إذا ارتقى إلى مستوى التحف الفنية التي لا تغادر ذاكرة المتلقين بسهولة.
ولمعرفة القصة السينمائية من كثب لا بد من متابعة حبكة الفيلم وسير الأحداث التي أخذت تتصاعد شيئًا فشيئًا وتأخذ بتلابيب المتلقين العضويين الذين يتفاعلون مع الأحداث بشقّيها العاطفي والمأساوي وصولًا إلى النهاية الصادمة التي تهزّ المشاعر وتثير الشجون.
يتناصف بطولة الفيلم الحفيد العراقي "تُورن مام رشي" والطبيبة الجورجية "إيكا"، فالأول رسّام وفنان موهوب جدًا تشهد له لوحاته الآسرة التي تخلب الألباب وتُثير شهية المُقتنين الأجانب الذين يدفعون ثمنها بالعملة الصعبة، ذلك لأن لوحاته تتميز بالأشكال والخطوط المُبهرة، وتنفرد بالإحساس العالي الذي يمكن تلمّسه حتى في الدرجات اللونية الأخّاذة الجمال. ومع أنّ لوحاته تتكلم بلسانٍ فصيح إلّا أنّ "زورا"؛ تاجر الأعمال الفنية والمروّج لها يحثّهُ على التفاعل مع الزوّار وشرح مضامين لوحاته الفنية حتى يحفِّزهم على شرائها. وبغية حثّه وتشجيعه على رسم المزيد من اللوحات يخبره المُروِّج بأنّ هناك مواطنًا روسيًا غنيًا يريد أن يقتني ثلاث لوحات دُفعة واحدة وهو على عجلة من أمره لكنّ "تورن" يؤجل هذا الطلب السريع لأنه مُرهَق ويحتاج إلى الراحة. لم يكن "تورن" متوازنًا في حياته العاطفية فلديه "كيتي" وفتيات أخريات يُلبّين حاجاته الجسدية العابرة لكنه ما إن يتعرّف على "إيكا" في المتنزّه العام إثر إغماءته الأولى حتى يترك العبث واللهو مع النساء العابرات ويتخذ منها حبيبة، وزوجة، وثنيّة لروحه اللائبة التي ستستقر لبعض الوقت قبل أن تُدهمه المُلمات والمشكلات الصحية الخطيرة.
تتطور الأحداث سريعًا فبينما يتجول في المتنزه العام في قلب العاصمة تبليسي يسقط مغميًا عليه فتقترب منه "إيكا" وتخبره بأنّ ما حدث له هو بسبب الإرهاق لا غير، وتوصله إلى البيت، وتنصحه بمراجعة الطبيب، ولا تتردد في إعطاء عنوان عيادتها الطبية له. لم تُمانع حينما يطلب منها أن يتعرّف عليها أكثر، وتقبل دعوته للذهاب بنزهة إلى ساحل البحر في باتومي مع صديقتيها فيربطهما رباط الحُب الأبدي ويقرران الزواج وبناء أسرة صغيرة لكن والدها يعترض أول الأمر لأن حبيبها ليس مسيحيًا ولا يعرف أصله وفصله. لا يقف اعتراض الأب عائقًا أمام زواجهما فـ "إيكا" طبيبة تجاوزت سن الرشد وهي تعرف جيدًا الشخص المناسب لها. كما أن تورن "اللاديني" أبدى استعداده لأن يصبح مسيحيًا إذا تطلب الأمر، فهو لم يمارس أية شعيرة دينية من قبل وكان يجهل ديانة وتقاليد الآباء والأجداد الإيزيديين وعاش حياة متفتحة لا تنسجم مع خلفيته الثقافية والفكرية والاجتماعية لكن اقترانه بـ "إيكا" سوف يُعيد الأمور إلى نصابها الصحيح على صعيد الالتزام بالعلاقة الزوجية في الأقل. فلقد استطاعت هذه المرأة أن تخلِّصهُ من العزلة القاسية التي كان يعيشها وأشعرتهُ بقيمة الحياة المُثمرة التي يعيشها الآن بعد أن أصبحا جسدين في روح واحدة. يرقص في حفل زفافه رقصة إيزيدية بطلب من "زورا" ويسقط مغميًا عليه مرة أخرى. وحينما يُنقل إلى المستشفى ويأخذون عيّنة من دمه إلى المختبر يتبيّن أنّ حالته خطيرة وأنّ الدكتورة المختصة لديها بعض الشكوك بأنه مُصاب بسرطان في الدماغ لكن نتائج الفحوصات المعمقة لن تظهر قبل أسبوعين حتى تقطع شكّها باليقين فيظل منتظرًا على أحرّ من الجمر نتائج الصور والتحليلات المختبرية.
ينهمك "تورن" في رسم العديد من اللوحات الجديدة التي استمدها من موروثه الإيزيدي عن معبد لالش وصوّر فيها الظلم الذي سبّبه العثمانيون للشعب الإيزيدي برمته حيث قتلوا الرجال، وسبوا النساء، وذبحوا الأطفال الأمر الذي دفعهم لركوب البحر والهرب إلى جورجيا وروسيا اللتين آوتهما ووفرتا لهما حياة كريمة لم ينسوها حتى الآن رغم تقادم السنوات.
يُعجب "زورا" باللوحات الجديدة التي رسمها "تورن" لكنه ينصدم حينما يخبره بأنّ هذه اللوحات ليست للبيع وإنما يريد أن يهديها لزوجته "إيكا" الأمر الذي يفضي إلى طرد "زورا" من المنزل لأنه لا يفكر إلّا في الأرباح المالية التي يجنيها من هذه العلاقة القائمة على المصلحة الشخصية فيسقط "تورن" ويغمى عليه للمرة الثالثة. وحينما يُنقَل إلى المستشفى يخبرها الطبيب بأنّ حالة زوجها ميئوس منها تمامًا لأنّ لديه ورمٌ خبيث في الدماغ ولا ينفع معه التداخل الجراحي أو العلاج الكيمياوي وإنما سيستعمل العلاج الهرموني الذي يخفِّف الآلام فقط فيعود إلى البيت، ويتعرض إلى نوبات عصبية حادة يرفض بسببها تناول الدواء لكنه سرعان ما يعود إلى رشده ويعتذر عن تصرفاته الفظّة ويطلب من زوجته أن تسامحه على هذا السلوك الغريب ويتمنى أن يرى ابنه قبل أن يفارق الحياة.
تأخذ "إيكا" في غياب صديقتها الدكتورة "ناتا" إبرة تسريع الولادة وتزرق يدها فتلد جنينها قبل الأوان لكي تفي بوعدها الذي قطعتهُ لـ "تورن" وتدعه يحقق الأمنية الأخيرة التي حلُم بها. وحينما تضع وليدها على صدره وتطلب منه أن يفتح عينيه لكي يراه قبل أن يغادر الحياة لكنه يفشل في فتح عينيه غير أنّ أصابع يده اليسرى تتحرك وتمسك برأس الابن الذي تمنّى أن يراه قبل الرحيل الأبدي.
بعد خمس سنوات يعود ابن الحفيد "تورن" مع عمه "مراز" إلى معبد لالش ويبدو سعيدًا جدًا وهو يتحرك في أرجاء المعبد الروحي ونسمعه وهو يردد:"أنا أؤمن بالله الواحد، الشمس قِبلتي، و"الينبوع الأبيض" موضعَ تعميدي، الكهف مكان حجّي. تحياتي لجبل مقلوب، ولالش المقدس الذي يتخذه أبناء "إيزيدخان" مكانًا للعبادة والسجود".
لم تنتهِ المأساة بموت الحفيد تورن؛ الفنان التشكيلي المبدع الذي غادرنا متأثرًا بمرض السرطان. فقد خطف الدواعش "تورن" ابنه الوحيد في مدينة سنجار بعد مقتل عمه "مَراز" في حملة إبادة جماعية جديدة ضد الإيزيديين وبقي مصيره مجهولًا حتى هذه اللحظة. وهذا يعني أنّ مِحن الماضي ومصائبه يمكن أن تكرر دائمًا إذا لم نعالجها بشكل جذري قاطع ونضع الحلول الناجعة لها.
بقي أن نقول بأنّ المخرج الألماني - العراقي نوزاد شيخاني قد أنجز العديد من الأفلام الوثائقية والروائية والقصيرة من بينها "زفاف شرقي في تونس"، "منزل ليزي"،"الفرمان الأسود" و"سمفونية سنجار". كما حصل على العديد من الجوائز العالمية من بينها جائزة جان لوك غودار، جائزة الثعلب الذهبي، جائزة نور الشريف في مهرجان الإسكندرية السينمائي. علمًا بأنّ جميع أفلامه هادفة وتمزج بين الجانبين الفني والإنساني في آنٍ معًا.
The post تورِن: العودة إلى الجذور.. سردية الإبادة الجماعية للإيزيديين تتكرر عبر الأجيال appeared first on جريدة المدى.