ARTICLE AD BOX
تقول واحدة من أوسع الشذرات شيوعاً إنّ كل رواية تاريخ، ولكن ليست كل رواية تاريخية، بما يعني أن الروائي يعيد خلق أي تاريخ يريده بخياله، بينما المؤرخ ينقل (أو يزعم أنه ينقل) ذلك من خلال مصادر. حين يكون اللقاء مع الروائي الفلسطيني السوري تيسير خلف (1967) تبدو الفرصة ذهبية لقراءة هذه اللعبة المضنية والممتعة بين عوالم التاريخ وأدب الرحلات والسير الذاتية، التي جميعها تشكّل مزاجه الروائي خلال عقدين.
استمعنا إلى خلف خلال أمسية "حديث الألف"، مساء أول من أمس الأحد، وهو يؤكد لمحاورته، الروائية اللبنانية هالة كوثراني، مرات عديدة، بأن هذا الحدث في هذه الرواية أو تلك هو بالفعل تاريخ حقيقي، بما يذكر بتلك العبارة التشجيعية على أغلفة روايات وتترات أفلام سينما، بأن ما سترونه أو تقرؤونه مستند فعلاً إلى قصة حقيقية. بيد أن اللعبة الروائية عند تيسير خلف تراهن دائماً على أن المدونة التاريخية هي الماضي الذي يُكتب الآن ويواصل إنتاج معانيه. وهو يختار من مختلف السرود الأُخرى ما يريده، ابتداء من مجموعته القصصية "قطط أخرى" عام 1993، حتى رواية "المسيح الأندلسي" (2024)، وبالتأكيد عبر المرور الروائي الأول "دفاتر الكتف المائلة" عام 1996، ليكون أخيراً في بطاقة الهوية الرسمية التي جعلته يغرف من بحر التاريخ ويقد من صخر الرواية.
حاجة للنبش والعثور مراراً على سيرورة التاريخ وأمثولاته
أقيمت الأمسية ضمن أنشطة معرض الدوحة الدولي للكتاب، وهي المرة الأولى التي يخرج فيها "حديث الألف" من مقره المعتاد في مكتبة "ألف" التابعة لمجموعة "فضاءات ميديا"، ليكون إحدى الفعاليات المصاحبة لهذه الدورة الرابعة والثلاثين.
لم يكن ضيف "حديث الألف" بداية "متورطاً" روائياً في بحر التاريخ الذي سينجز فيه عشرات البحوث والكتاب منذ مطلع 2000. عاش الكاتب أواخر تسعينيات القرن الماضي في الدوحة لمدة عامين، صحافياً في صحيفة "الراية"، وهي الفترة التي قال إنها أخذته بعيداً إلى التاريخ. وعليه، فقد قال إن ثمة ثلاث مراحل متوالية ومتداخلة وهي الأولى التي كتب فيها قصة ورواية مطلع التسعينيات، ثم الإنتاج التاريخي، وصولاً إلى الروائي الذاهب إلى التاريخ سواء القديم أو المعاصر.
هي إذن، اللعبة التي شغف بها، حيث التاريخ ليس مادة جامدة أو نهائية، وهي بالقدر الذي تصبح فيه مشاعاً، فإنه قادر على فعل أمرين: الدخول من أبواب سرية إلى التاريخ عبر البحث المضني في الآثار المخطوطة والأرشيفات، والثاني تخييل التاريخ الذي يعيد إحياء المكان والزمان وتفجر السرد من داخل ما وصل وما اختفى من هذا التاريخ.
وهنا قال تيسير خلف إن "شغفي التاريخي يتجاوز البحث المباشر، فقد وجدت التاريخ مجالاً للاستكشاف ومخاطبة الواقع. فثمة تجارب إنسانية عظيمة لم تدرس بشكل عميق، والتجربة الإنسانية قد ينظر إليها من مختلف الزوايا، بما يؤكد دائماً أن الإنسان واحد".
وعليه بالنسبة له، فإن حادثة تاريخية "يذهلك حجم التطابق مع بعض الوقائع الآن، فيستطيع الإنسان بالتالي أن يحمل هذه التجربة التاريخية محمولات واقعية معاصرة لكن بأسلوب أدبي"، والقصة البشرية نشأت أصلاً لاستعادة الماضي، كالملاحم الإغريقية التي تحكي عن أمم سالفة، وكذلك جزء من الأدب الحكائي العربي الذي يحكي قصص الأولين، على حد قوله. وخلاصة ضيفنا أن التاريخ "معين أساسي للأدب، لأنه يتيح مجالاً للتخيّل، والكاتب عندما يتخيّل يبني واقعاً آخر".
تروي "المسيح الأندلسي" انقسام الأندلسيين بعد مئة عام من سقوط غرناطة
وكان مفتاح النماذج التي طلبت كوثراني الحديث عنها هو راجي السيقلي الشخصية الرئيسية في رواية "عصافير داروين"، حيث عثر الكاتب على جزء من سيرته أثناء بحثه في سيرة "أبو خليل القباني" (1835-1902)، وعمق معرفته من خلال سيرة شقيق راجي وهو قسطنطين، الذي تولى الكاتب تحقيق كتابه الضخم "من عكا إلى تكساس: مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي (1861-1925).
وراجي السيقلي، كما يكشفه لنا تيسير خلف، هو المثقف الفلسطيني المسرحي الذي مثّل الدولة العثمانية في معرض شيكاغو عام 1893، مع فريق من الخيالة البدو الذين مثّلوا في مسرح حي قصص عنترة وأبو زيد الهلالي قبل أن يقعوا بين أيدي عدد من المرابين والمحامين، الذين استولوا على الخيول التي هي آباء وأمهات أكبر سلالة خيول عربية أصيلة في العالم موجودة في أميركا.
وبما أن سؤال "حديث الألف" المركزي هو حكاية الحكاية، فإن الحديث تناول أيضاً روايته "ملك اللصوص: لفائف إيونوس السوري" المبنية على قصَّة حقيقية لحياة كاهن سوري يغادر سورية ليقود أول ثورة للعبيد في تاريخ الإمبراطورية الرومانية. وفي روايته "مذبحة الفلاسفة" تاريخ عربي روماني لطالما اختزل، لكن الكاتب الروائي هنا يكتب روايته بعد معايشة آثار مكتوبة قديمة ومعايشة ما تُرك من آثار عمرانية على الأرض في سورية وإيطاليا، تحكي عن زنوبيا من الجانب الفلسفي المغفل في حياتها، وهي التي كان مجلس حكمها كلّه من الفلاسفة الذين قتلهم الإمبراطور الروماني أورليان.
وكما أخبر خلف سابقاً فإن "زنوبيا لم تنتحر بعد سقوط تدمر، بل اقتيدت أسيرة إلى روما مقيدة بسلاسل ذهبية. هكذا ورد في النص الأقدم لقصتها، وهو كتاب تاريخ أوغستا الذي وضع في حياتها أو في فترة قريبة من ذلك". وجاءت الرواية إذن، فكتبها كاتبها معتمداً في أسلوبه على كتابة فرفوريوس الصوري الفيلسوف السوري اليوناني المعروف بغزارته في الكتابة، وكان معاصراً لفترة زنوبيا، وقد اشتق خلف لغته من هذا الفيلسوف.
إلى تاريخ أحدث مرتبط تحديداً بفلسطين القضية السياسية، أي منذ باتت تتحقق عليها مشاريع الاستعمار التقليدي وتوريثه للمشروع الصهيوني. جاءت رواية "موفيولا" التي تحكي قصة محمد صالح الكيالي (1918-1977) المصور الفلسطيني والسينمائي الرائد الذي يكشف الكاتب عن علاقة رعائية من الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني لهذا السينمائي القادم بتحصيل علمي من إيطاليا. ولاحظ الروائي أن الحسيني (1895-1974)، لديه إدراك متقدم لأهمية الإعلام والسينما، وقد قرّب الحسيني، صالح الكيالي ودعمه في إنتاج أول فيلم وثائقي في السينما العربية بعنوان "أرض السلام"، وقال "من يشاهد أفلامه يرى كيف نقل تقنيات السينما التسجيلية الإيطالية للدعاية لقضية فلسطين في فترة مبكرة".
هذا الشغف في التاريخ ينتقل في كثير من الأحيان من الكاتب إلى المتلقي، حتى لكأن الاكتشاف والمغامرة يصبحان أبعد من العصف الذهني. إنه حاجة للنبش والعثور في كل مرة على سيرورة التاريخ وأمثولاته، وتكراره الذي يشرق ويغيب دون أن يكون جديد تحت الشمس، ويكون في لحظة جديد.
مكث الكاتب وقتاً مقدراً وهو يعاين قصر زنوبيا في تيفولي الإيطالية، لأن القصر الذي عاشت فيه كان مكاناً أساسياً في الرواية. وفي رواية "المسيح الأندلسي" تناول الكاتب الانقسام الذي عاشه الأندلسيون بعد مئة عام من سقوط غرناطة، والذي نجم عن صراع وجهتي نظر، بين الداعين إلى البقاء "في بلدنا ونمارس التقية، بحيث نكون مسيحيين علنياً، وفي الأقبية مسلمين، أو الخيار الآخر أن نهاجر بناء على فتاوى أُخرى مغايرة". في هذه الرواية يرتدي الكاتب ثلاث قبّعات: التأريخ والقصّ والفلسفة، وهو يؤكّد هنا أن الصراع كان في تلك الفترة فلسفياً وليس دينياً فقط، إذ يتعلق بقيم الحياة لدى مأساة شعب كان يتعرّض للمحو.