"جرائم عائلة مانسون" وجنون المؤسسة الأمنية الأميركية

1 week ago 3
ARTICLE AD BOX

عاد المخرج إيرول موريس، أخيراً، بفيلم وثائقي جديد يحمل عنوان Chaos: The Manson Murders (فوضى: جرائم عائلة مانسون). موريس الذي صنع فيلم "الخط الأزرق الرفيع" عام 1988، يدخل مجدداً إلى منطقة رمادية في التاريخ الأميركي، وكعادة صاحب السرد الوثائقي السحري، لا يكتفي بإعادة سرد التفاصيل المعروفة، بل يحفر تحت سطح الرواية الرسميّة التي صاغها المدعي العام فينسينت بوغليوسي في كتابه الأكثر مبيعاً "هيلتر سكيلتر"، يتساءل موريس، الحائز جائزة أوسكار عام 2003 عن فيلم "ضباب الحرب": ماذا يوجد خلف الفوضى التي سببتها جرائم عائلة مانسون؟
جرائم عائلة مانسون التي هزت أميركا في 1969، وقُدّمت للجمهور بقوالب ترفيهية متنوعة. يقترحها موريس، هذه المرة، بعدسة جديدة، عدسة فلسفية تعيد تشكيل الواقع ضمن عوالم موازية، البحث في هذه الفوضى أو كما سماها الإعلام الأميركي حينها بمجزرة الهيبيز المجنون، هو تحدٍّ جديد يقدمه موريس للجمهور، يقلّب الحقائق المطلقة ويحول القصة إلى فنٍّ يبحث عن اللايقين، متحدياً بذلك حدود السينما الوثائقية.
الفيلم من إنتاج "نتفليكس"، ويحمل بصمتها على إيقاعه السريع وبُنيته ثلاثية الفصول: الجريمة ثم التحقيق ثم الكشف، بلغة بصريةً توفيقيةً تهدف إلى جذب أكبر جمهور. ليواجه موريس رواية المدعي العام، استند إلى كتاب الصحافي توم أونيل، "الفوضى: تشارلز مانسون، وكالة المخابرات المركزية، والتاريخ السري للستينيات"، إذ لا تُروى قصة جرائم القتل بقدر ما يروي قصة السرديات المتنافسة حولها. القاتل المجنون مانسون يتحول هنا إلى لعبة في يد أطراف خفية، بعد أن اكتشف الكاتب أنه مجرد ضحية لمشروع MKUltra السري لوكالة المخابرات المركزية، الذي استهدف التحكم في العقول عبر المخدرات المهلوسة.
الفيلم يبدأ بتحطيم التمثال الأيقوني لمانسون بوصفه المعلم الشيطاني الذي خطّط لحرب عرقية مستوحاة من أغنية لفرقة البيتلز. بدلاً من ذلك، يعيد موريس تركيب الصورة عبر مقابلات موسعة مع أونيل، الذي قضى عقوداً في تتبع خيوط المؤامرة. نتابع سرداً مُضاداً يشير إلى أن المدعي العام الطموح بوغليوسي، اختلق نظرية "هيلتر سكيلتر" لتبسيط القضية وبيع كتابه، متجاهلاً أدلة تربط مانسون ببرامج حكومية سرية.
يكشف أونيل عن وجود لويس ويست، وهو طبيب نفسي مرتبط بـMKUltra، يعمل في عيادة هايت-أشبوري المجانية التي ارتادها مانسون وأتباعه. الفيلم يربط بين تقنيات غسل الدماغ التي استخدمها ويست في تجاربه، وتلك التي مارسها مانسون على عائلته المصطنعة، مُلمحاً إلى أن الأخير ربما كان جزءاً من تجربة أكبر، أو على الأقل مُستفيداً من مناخٍ سمح بوجود مثل هذه البرامج.
يعتمد المخرج على أسلوب بصري مميز، فيستخدم اللون الأحمر رمزاً مركزياً في مشاهد إعادة تمثيل مسرح الجريمة، جميع اللقطات التي تخفي خلفها قصصاً أخرى يشوهها المخرج بدماء افتراضية، كمشهد مانسون وهو يبتسم كنبي هيبي، أو مشهد الصينية المليئة بمقل العيون البلاستيكية، استعارةً عن تهشم الرؤية وزيف الصورة العامة.
المشاهد تُعيد سرد الجرائم بتفاصيلها المعروفة (مقتل شارون تيت، الكتابات بالدم... إلخ) بطريقة تقليدية تكاد تكون مملّة. يحدث التحول عندما ينتقل موريس إلى عوالم المؤامرة التي احترف التعامل معها. هنا، يصبح الإيقاع أشبه بتحقيق بوليسي، فكل دليل جديد يقلب الطاولة. يتردّد الفيلم في تقديم استنتاجات حاسمة، ويترك المشاهد في حيرة: هل مانسون دمية مخابرات؟ أم أن أونيل وقع في فخ نظرية المؤامرة؟ والجواب هو أن موريس يُفضّل اللعب في المنطقة الرمادية.
إنه فيلم عن قوة السرديات، وعن كيف تُصنع الحقائق وتُشوَّه في خضمّ الأجندات السياسية والإعلامية. اتهامات أونيل بوجود صلة بين مانسون وبرنامج MKUltra تفتح ملفّاً عن جنون المؤسسة الأمنية في حقبة الستينيات، إذ حوّلت الحكومة مواطنيها إلى فئران تجارب في سعيها إلى التفوّق على الاتحاد السوفييتي.

يفضح الوثائقي أيضاً دور الإعلام في تحويل مانسون إلى وحش استثنائي لتعمية الرأي العام عن فشل الدولة في حماية مواطنيها من تجاربها السرية، كما حوّل "هيلتر سكيلتر" الهيبيز إلى تهديد وجودي، بعد أن تحوّلت أحلام السلام إلى كوابيس بفضل مخدرات وكالة المخابرات.

في فيلموغرافيا موريس، سيكون لهذا العمل مكانةُ الوثائقي الانتقالي، هو الجسر بين عصر الأفلام السينمائية المُلتزمة وعصر المنصات التي تطلب المحتوى ذا الإيقاع السريع. لكن حتى في هذا الإطار، يظل موريس قادراً على طرح الأسئلة المحرجة عن دور الدولة في صناعة الوحوش، وعن سهولة تحويل الحقيقة إلى سلعة.
يُصرّ المخرج على أن الجرائم نفسها، رغم فظاعتها، تصبح ثانوية أمام صراع السرديات في عصرنا المليء بنظريات المؤامرة والأخبار المزيفة. ينجح الفيلم بفضل جرأته في تشريح الأسطورة، وبصرياته المُقلقة التي تعلق في الذاكرة وعنوان الفوضى يدل على فوضى الحقائق والأخلاق والتاريخ.

Read Entire Article