ARTICLE AD BOX
كانت لحظات مفعمة بالمشاعر الجيّاشة ونحن نشهد علم الثورة والاستقلال يسمو فوق ساريته أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك. فهذا العلم يجسّد اليوم ذكرى الملايين من السوريين من الشهداء والمغيّبين وسكّان المخيّمات واللاجئين في الجوار الإقليمي، وسائر الذين ثاروا على سلطة آل الأسد المستبدّة الفاسدة المُفسِدة. كانت لحظات تعانقت فيها البسمة مع الدمعة، وذلك في مشهد يفرض هيبته وجلاله بعد هذا الانتظار كلّه، وتلك التضحيات والتطلّعات. والأمل هو أن يظلّ هذا العلم مرفوعاً ليعبّر عن وحدة السوريين جميعاً، ويمثّل توافقهم، بمعزل عن الانتماءات الفرعية والتوجّهات السياسية، على أساس احترام الخصوصيات والمشاركة المتساوية العادلة في الحقوق والواجبات في سياق الإنماء الوطني العام.
ولعله من المناسب أن نبيّن هنا أن اعتماد هذا العلم ليكون رمزاً للثورة السورية لم يكن بقرار سياسي من المجلس الوطني السوري أو الائتلاف، وفق ما أتذكّر، وإنما كان بناء على شرعية شعبية تجلّت في إرادة السوريين الأحرار، هؤلاء الذين كانوا يقاومون بصدورهم العارية آلة القتل الأسدية والقوى الداعمة لها في أواخر العام الأول من الثورة، التي كانت إلى ذلك الحين تحتفظ بطابعها السلمي، وتجمع بين صفوفها أعداداً هائلة من الشباب من مختلف المكوّنات المجتمعية السورية، إلى جانب المثقّفين والسياسيين والمواطنين السوريين المناهضين لحكم آل الأسد، الذي امتدّ ظلماً وظلاماً 54 عاماً، تحكّم خلالها برقاب وحرّيات السوريين، وتدّخل في أدق تفاصيل حياتهم الشخصية، وضيّق عليهم سبل العيش الكريم بالأساليب كلّها. أمّا لماذا لم يُفكّر في تبنّي علم الاستقلال ليكون رمزاً منذ البدايات، فهو أمر ناجم عن القراءة الخاطئة لمجمل الوضع في ذلك الحين، إذ كان الاعتقاد أن السلطة ستسقط في غضون أشهر، ولذلك لا داعي لفتح باب التباينات أو الخلافات، وإنما ننتظر حتّى يقرر السوريون، في ظلّ عهدهم الجديد، أي علم سيختارون، ليكون رمزاً للثورة والوطن، إلى جانب الرموز الأخرى مثل النشيد الوطني، واسم الجمهورية، ورمز الدولة.
فرض علم الاستقلال نفسه، بالتزامن مع تجذّر الثورة واتساع نطاقها، وأصبح بتمسّك شعبي رمزاً للثورة السورية
وما أتذكّره بخصوص هذا الموضوع أن الصديق أديب الشيشكلي (حفيد الرئيس الراحل الشيشكلي)، كان يسعى باستمرار من أجل تسويق فكرة اعتماد علم الاستقلال ليكون رمزاً للثورة مقابل علم الوحدة المصرية السورية، وهو العلم الذي اتخذته السلطة الأسدية راية لها بعد زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس. ومن نشاطات الشيشكلي المعروفة في هذا المجال أنه كان يقوم بنفسه بتأمين علم الاستقلال بأشكال وأحجام مختلفة، ويقوم بتوزيعها من خلال الأصدقاء والنشطاء في مختلف المناطق داخل الوطن وبين السوريين في الخارج. وأعتقد أنه لم يكن الوحيد الذي كان يعمل في هذا الاتجاه، ولكنّ دوره كان لافتاً ولا يمكن تجاهله في هذا المجال. ومع الوقت فرض هذا العلم نفسه، بالتزامن مع تجذّر الثورة واتساع نطاقها، وأصبح بتمسّك شعبي، ومن دون قرار رسمي من أي جهة، رمزاً للثورة السورية، وذلك في محاكاة لما حصل مع العلم الليبي القديم الذي أصبح رمزاً للثورة الليبية.
وبمناسبة الحديث عن ليبيا العزيزة وثورتها، أتذكّر في هذا السياق أننا كنا في زيارة إلى طرابلس بعد الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري (2/10/2011)، إذ اجتمعنا مع مصطفى عبد الجليل وعدد من أعضاء المجلس الوطني الليبي الانتقالي. بعد اللقاء تقرّر أن ينقسم وفدنا بين وفدين. الأول اتجه إلى القاهرة للقاء الأمين العام للجامعة العربية؛ في حين تقرّر أن يبقى الثاني في ليبيا، ويستمرّ في اتصالاته مع الإخوة الليبيين، ويشارك في اليوم التالي في احتفالية خاصّة بالثوار الليبيين. وباعتباري كنت وما زلت أرتبط بعلاقة وجدانية مع ليبيا وأهلها، آثرت البقاء فيها علّني أستعيد ذكرى الأيام الجميلة التي عشتها فيها، وأشارك أهلها فرحتهم بالخلاص من الطاغية.
وحينما توجّهنا إلى المكان المحدّد، فوجئنا بأحدهم يسرع نحونا، وهو يحمل العلمين، علم السلطة وعلم الثورة، وهو يسأل ما هو العلم الذي تعتمدونه حتى نرفعه في استقبالكم؟ طبعاً، وقتها كنا نعتمد العلم السوري "الرسمي"، مع وجود توجّه قوي ضمن المجلس لاعتماد علم الاستقلال الذي فرض نفسه من دون قرار رسمي من جانب المجلس كما أسلفت، وذلك وفق ما أعلم وأتذكّر. وظلّ هذا العلم رمزاً يعتزّ به السوريون الثائرون في السرّاء والضراء حتى تخلّصوا من سلطة آل الأسد المافياوية، وجاء اليوم الذي رفعه وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في نيويورك ليكون علم الانتصار والأمل والمستقبل الجديد، الذي نتمنّى أن يرتقي إلى مستوى تضحيات وتطلّعات السوريين.
وبمناسبة الحديث عن علم الاستقلال والثورة والجمهورية، أتذكّر هنا أيضاً مشاركة لي في برنامج تلفزيوني قبل نحو عشر سنوات مع أحد السوريين كان يقدّم نفسه من المعارضين، ولكنّه، في الوقت نفسه، كان ينتقد الثورة السورية ومؤسّساتها بأقسى العبارات. وكان محور الحديث هو بيان مؤتمر الرياض الأول الذي جمع بين ممثّلي مختلف أطياف المعارضة السورية في الداخل والخارج عام 2015. لم يتجاوز النقاش بيننا بصورة عامّة حدود الاحترام المتبادل رغم تباين الآراء والمقاربات. ولكن الذي لفت نظري في سياق نقده للسوريين الثائرين قوله: إنهم يرفعون علم الانتداب. وبالمناسبة، لم يكن هو الوحيد من المعارضين القلقين الحائرين صاحب هذا الموقف. وسرعان ما تبيّن لي خلال البرنامج نفسه أن هذا الموقف لم يكن ينمّ عن جهل أو تجاهل فحسب، بل كان يعبّر عن موقف مسبق سلبي من الثورة وأهلها. هذا ما بدا واضحاً حينما وجدته يكرّر التعبير ذاته ثانية وربّما ثالثة. حينئذٍ تدخّلت، وخاطبته بكلّ أدب وهدوء قائلاً: ألاحظ أنك تستخدم كلمة الانتداب ونحن نعلم أن هذا العلم هو علم الاستقلال، علينا أن نحترم مشاعر الناس على الأقلّ، فقد ضحّى آلاف السوريين بأنفسهم دفاعاً عن ثورتهم في ظلّ هذا العلم، ودفاعاً عنه. ولا أعلم ما إذا كان صاحبنا قد أحسّ في تلك اللحظة بخطئه الجسيم، إذ إنه آثر الصمت، ولم يعلّق على ما ذهبت إليه، وربما كان هذا الأمر لصالحه، لأنه أنقذه من الموقف المتسرّع غير الموفّق.
مرّت الثورة السورية بمراحل مختلفة قاسية، وكان القتل غير المسبوق، وتدمير المدن والبلدات والقرى والتهجير وتشريد ملايين السوريين، وتغييب الآلاف، إلى أن تحقّق الحلم المشروع في نهاية المطاف، وسقطت السلطة الباغية، وهرب الابن المريض، ووصلنا إلى اليوم الذي شاهدنا فيه علم الاستقلال والثورة يرتفع علماً للجمهورية فوق سارية المؤسّسة الدولية الأهم في العالم. وحتى يظلّ هذا العلم مرفرفاً بشموخ وكبرياء يجسّد آمال وتطلّعات واعتزاز سائر السوريين، لا بدّ من التعامل مع ما تحقّق من نصر مبين بأنه نصر وطني عام، ساهم فيه السوريون كلّهم، الذين ثاروا ضدّ سلطة آل الأسد، ودفعوا ضريبة الحرية والكرامة والعدالة بسخاء منقطع النظير. ويستوجب هذا خطاباً وطنياً جامعاً يمتلك المصداقية، عبر تعزيزه بالإجراءات الفعلية في الأرض، وليس بمجرّد الأقوال والمجاملات؛ ومثل هذا الخطاب لا بدّ أن يتعارض بالمطلق مع الخطاب الطائفي المقيت، والقومي البغيض، الذي نسمعه هنا وهناك.
السوريون في حاجة ماسّة إلى حوار وطني بين ممثّلي المكوّنات المجتمعية والسياسية والإدارة الجديدة، وفي مقدّمتها الرئيس الشرع
تمرّ سورية اليوم بواحدة من أصعب مراحلها، وهي تواجه تحدّيات كبرى، بل وجودية. لذلك، نحن في حاجة ماسّة إلى حوار وطني حقيقي بين ممثّلي المكوّنات المجتمعية والسياسية والإدارة الجديدة، وفي مقدّمتها الرئيس الشرع نفسه. أمّا أن نغضّ النظر عمّا يحصل من ظواهر سلبية، وسلوكيات غريبة، وتحرّك مجموعات مسلّحة تسوّق نفسها باسم الإدارة الجديدة، بينما تتنصّل منها الأخيرة، وما يؤدّي إليه ذلك من ردّات فعل لدى مختلف الأطراف، فهذا معناه أن هناك مخاطر جدّية تهدّد الفرح والطموح السوريين. فما حصل في الساحل، ويمكن أن يحصل مجدّداً. وما حصل في السويداء، ويمكن أن يحصل مجدّداً. وما قد يحصل في المناطق الشرقية والشمالية، وحتى في المناطق الداخلية... ذلك كلّه يُنذر بعواقبَ سيئة لن تكون في مصلحة السوريين، وإنما ستستغلّها القوى المتربّصة، وفي مقدّمتها إسرائيل التي تخطّط وتعمل لتغيير خريطة المنطقة، لتكون وفق ما ينسجم مع حساباتها الآنية والمستقبلية. كما أن النظام الإيراني من ناحيته، ورغم قبوله التفاوض، نتيجة واقعه المأزوم، مع الأميركيين حول الملفّ النووي، وربّما الدور الإقليمي، وإمكانية جذب الاستثمارات الأميركية، لم يتخلَّ بعد عن مشاريعه "التبشيرية" ذات النزعة الإمبراطورية، وهي المشاريع التي يغلّفها بشعارات إسلامية تدّعي نصرة المظلومين، بينما هو يمارس في حقيقة الأمر سياسة استراتيجية التزمها منذ سيطرته على الحكم، وهو ما زال متمسّكاً بها رغم إخفاقاته كلّها. فهو يجد في هذه الشعارات زاداً حيوياً يستمدّ منه الدعم في التسلّط على الدولة والمجتمع والمقدرات الاقتصادية.
لن ينقذ السوريين في مواجهة مختلف أنواع التحدّيات الداخلية والخارجية سوى وحدتهم الوطنية المتماسكة التي تستوجب إعطاء الأولوية لملفّات الحوار الوطني الحقيقي والمصالحة الوطنية الشاملة، والعدالة الانتقالية البعيدة عن نزعات الانتقام الفردية أو الجماعية، إلى جانب التركيز على ملفّ تأمين الخدمات والحاجات الأساسية للمواطنين في سائر أنحاء الجمهورية. حفظ الله سورية وشعبها.
