ARTICLE AD BOX
تثير ضمن عملية التصنيف التراثي قضية مصادر الفكر السياسي الإسلامي عدة حقائق. تقوم أولاها على أنه يجب أن تفهم المصادر بأنها عملية توثيق، فتصير مصادر الفكر السياسي الإسلامي وأصوله، بهذا المعنى، مرادفةً لمجموعة الوثائق والآثار التي نستطيع من خلال تحليلها أن نكتشف حضارة ذلك التراث، قبل أن نتعامل مع الوظيفة الحضارية له، أو نسعى إلى تجميعها وتبويبها بمنهاجية علمية معينة. وهنا، علينا أن نتذّكر أهم تلك المصادر، فهناك أولاً الخطب، فخصوصية العرب تجعل منها مادّة جديرة بالمعالجة السياسية، لأنها تمثّل التصور العربي الإسلامي الحقيقي للممارسة السياسية، سواء من القيادات الممارسة أو من الرعية، إنها لغة التكامل بالإقناع والاقتناع، وعلينا فهمها بالمعنى الواسع، إذ يندرج تحتها ما يسمّى المناظرات والمحاورات. كما أن هناك (ثانياً) الرسائل، وهي تعكس الظاهرة نفسها لكنّها تمثّل مستوىً آخرَ للإدراك السياسي، إنها ممارسة لكنّها، في أغلب الأحيان، بين الحاكم ورجاله أو بين الخليفة وممثّلي الدول الأخرى، وهي لذلك تعبّر عن خصائص التعامل على مستوى القيادة، وليس على مستوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مع عدم تجاهل الرسائل بين الأفراد من مثل العقود أو ما في حكمها.
أمّا الكتب الموسوعية (ثالثاً) التي تتميّز بأنها لم تعرف التخصّص، وأنها تتعرّض لكلّ ما له صلة بالمعرفة، وتنبع من فكرة التأريخ أو التدوين كما هو متداول، وهي غزيرة الإنتاج إلى حدّ المبالغة، وهناك من المتخصّصين مَن يؤكّد أن المخطوطات المتوافرة حالياً في مختلف المكتبات العامّة قد يصل عددها إلى قرابة نصف مليون مخطوطة، لم يُقدّر للمحققين أن يتعرّضوا منها لأكثر من الخُمْس، وهي تسمح لنا لا أن نصل إلى بعض النصوص السياسية (بمعنى المواثيق السياسية المهمّة) فقط، بل كذلك بناء إطار معيّن للمدركات السائدة في عصر معيّن.
هناك من المتخصّصين مَن يؤكّد أن المخطوطات المتوافرة حالياً في مختلف المكتبات العامّة قد يصل عددها إلى قرابة نصف مليون مخطوطة
رابعاً، تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، أي الكتابات الفكرية العملاقة مثل مقدّمة ابن خلدون، إلا أنه يجب ألا ننظر إليها نظرة التقديس (على أهميتها) مثل ما اعتاد بعضهم بفعل الاستشراق، فهي لا تعدو فصلاً من بين فصول أخرى، بل ليس أكثرها أهمية عندما نسعى إلى بناء التراث السياسي الإسلامي وفق تعريفه الصحيح والمنضبط، ووفق تحديد المساحة الحقّة لمصادره، إنها وإن مثّلت اجتهادات هامّة، إلا أنها تمثّل ذلك الكيان الكلّي المتكامل من الخبرة التاريخية الفكرية للتراث السياسي الإسلامي. وتأتي خامساً الكتابات السياسية (مرايا الأمراء) وهي مجموعة انطباعات سجّلها أشخاص لم يرتفعوا إلى مرتبة الفلاسفة أو العلماء، ولكنّهم احتكّوا بالسلطة بشكل أو بآخر، فقدّموا نصائحهم أو سجّلوا انطباعاتهم من منطلق صنعة الكتابة، تحليل هذه المصادر تصير له أهمية مزدوجة، فضلاً عن أنه لا بدّ أن تخضع لمنهاجية متميزة، أمّا عن الأهمية، فمردّ ذلك إلى أن هذه الكتابات لا تقتصر على أن تقدّم تصوّراً للكاتب، بل تعبّر عن وعي جماعي أكثر من أن تكون صياغةً لنبوغ فردي، ورغم عدم تجرّدها لأن كاتبها ليس فيلسوفاً، بقدر واقعيتها التي هي نتيجة طبيعية لخصائص الكاتب وهدفه من تسجيل الوثيقة، ويسمّيها بعضهم بـ"كتابات الحكمة السياسية"، أمّا عن منهاجية التحليل، فلا بدّ أن تخضع لخصائص متميّزة من مثل أن ندرج المفاهيم والمدركات في مرحلة تطوّر سياسي متكاملة، وأنها عملية اتصال بين مرسل ومستقبل، حيث المستقبل، في أغلب الأحيان، هو الحاكم، والمرسل، في حقيقة الأمر، هو بعض المدركات السائدة في عقد أو عصر معيّنين. تأتي سادساً كتب الإدراك السياسي المتداول، أي كتابات الأدب عادةً، خاصّة الأدب السياسي، مثال "العقد الفريد".
الحقيقة الثانية ليست المصادر في أوسع معانيها فقط الوثائق التي تتضمّن تسجيلاً للأفكار، ولكنّها أيضا الأصول التي أسهمت في إنتاج تلك الأفكار، وشكّلت التقاليد السياسية الإسلامية، باعتبارها مصادر الحضارة الإسلامية، ومن أهم هذه المصادر (على اختلاف في أهميتها) وفى عملية توظيفها وطبيعة دراستها التي أعدّت لبناء التراث الفكري السياسي الإسلامي هي بالترتيب التاريخي: أولاً، التقاليد العربية السابقة على الدعوة، رغم أنها ترتبط بمجتمع البداوة، حيث ظاهرة الدولة لم تكن قد تكاملت بعد، إلا أنها صبغت بمفهومها العقلية العربية في تناولها المشكلات المختلفة المرتبطة بالوجود السياسي "تسمية تلك التقاليد أصولاً أمر من قبيل التجاوز، وتسمّى كذلك باعتبارها سابقة فحسب". وثانياً، تأتي المبادئ والمفاهيم الواردة في القرآن، والمستنبطة من الممارسة من خلال حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، لتشكّل القواعد والمبادئ الأساسية والقيم الحاكمة، إنها المعيار والنسق الذي يقاس على أساس كلّ فكرة أو نظام أو حركة، وعلى الرغم من أن القرآن لم يتضمّن نصوصاً تفصيليةً بتحديد أشكال الممارسة السياسية، أو بتفصيل نموذج واحد ومحدّد للتعامل بين الحاكم والمحكوم، إلا أن القرآن والسُّنة قد صاغا إطاراً فكرياً لمفاهيم المثالية السياسية، أي مجموعة المبادئ التي من نسيجها يتكوّن إطار القيم السياسية الإسلامية.
خصوصية العرب تجعل الخطب مادّة جديرة بالمعالجة، لأنها تمثّل التصور العربي الإسلامي الحقيقي للممارسة السياسية
تأتي (ثالثاً) الحضارات الأخرى الكُبرى التي انفتحت عليها تقاليد الممارسة العربية، التراث اليوناني، تقاليد الممارسة الفرنسية، بل إن التنقيب والمتابعة يسمحان بجزئيات أخرى تعود إلى نماذج أخرى قد تبدو لأول وهلة بعيدةً من التعامل مع الحضارة الإسلامية... إلخ. ورابعاً، تحليل تلك المجموعة من الوقائع التي بلورت الفكر ردّة فعل على مختلف التطوّرات السياسية، فالفكر هو في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون سلوكاً إدراكياً، وهو بهذا المعنى لا بدّ أن يخضع لتفاعل مستمرّ في علاقة ثابتة مع الواقعة، وهكذا ينقلنا من الفكر إلى الحركة، ومن التأمّل إلى الممارسة والمعاناة إلى الواقع، من مثل أن نشأة الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرها، ومعظم الفرق الإسلامية، تمحورت حول وقائع تاريخية تفرض معالجة هذه السياقات التاريخية، هذا في إطار علاقة الجانب الفكري للتراث السياسي الإسلامي، أمّا جانب التراث السياسي الإسلامي، فإنه يجعل من خبرة المسلمين محور اهتمامه حيث دراسة التاريخ السياسي للمسلمين، وما يتركه ذلك من دلالات، سواء في الخبرة الماضية أو الخبرة المعاصرة، وسيفيد لزوماً في التعرف على طبيعة نظم المسلمين وتطوّرها ومدى فاعليتها وكفاءتها في تحقيق وظائفها السياسية والمجتمعية.
خامساً، هناك كذلك مصادر اللغة العربية، ليس فقط في تقييم المفردات أو معرفة الغامض، ولكن لمنطق تركيب جملها. اللغة العربية تسمح بالوصول إلى مخازن للمعرفة معقّدة ومركّبة، كما أن الفهم الحقيقي للإسلام يسمح بفهم الحضارة المرتبطة بذلك التصوّر الديني، وكذلك التعامل الأوّلي مع علم أصول الفقه يبرز أدوات منهجية يمكن تطويرها لصالح دراسة التراث السياسي الإسلامي، مثل قواعد تحليل النصّ، وطريقة الاقتراب المنهجي لكلّ من القرآن والسُّنة، ثمّ الإلمام بأدوات البحث العلمية المنهجية الغربية في ضوء رؤية نقدية واسعة حتى يمكن الاستئناس بالصالح منها بعد فحص وتدقيق.
خلاصة الأمر أن النموذج الإسلامي، بهذا الخصوص، يقدّم عناصرَ مختلفةً تجعل له مذاقه الخاصّ، خلافاً لأيّ نموذج فكري آخر، بل إننا نستطيع القول إن مراجع من طبيعة مكمّلة يجب الإلمام ببعض مقولاتها، مثل ذلك كتب الاستشراق المنتشرة في مختلف مراحل تطوّره، كتابات الشرق الأوسط، كتابات التنمية السياسية، كتابات عن الحركات الإسلامية المعاصرة، ذلك كلّه يشكّل مراجع مهمّة تساعد في الفهم والمقارنة، بل إن الإلمام بالمقولات الأساسية لعلم السياسة الغربي والقضايا الكلّية، والمفاهيم الرئيسة، يفرض متابعة تلك المصادر بمستوىً من الفهم والتدقيق يسمح بالمقارنة بينها جميعاً على نحو منهجي منظّم.
