داخل كواليس "الكونكلاف"... هكذا انتخب البابا لاوون الرابع عشر

6 days ago 3
ARTICLE AD BOX

<p>البابا لاوون الرابع عشر (رويترز)</p>

مع غروب شمس الخميس الثامن من مايو (أيار) الجاري، بدا وكأن هناك تاريخاً جديداً يكتب في صفحات البابوية، بعدما أعلن الكاردينال مامبرتي وزير خارجية الفاتيكان السابق اسم البابا الجديد روبرت فرنسيس بريفوست الأميركي الجنسية، ليضحى البابا رقم 267، منذ بطرس الصياد الجليلي الفلسطيني وحتى اليوم.

والشاهد أن هذا الاختيار، ربما جاء مفاجئاً للبعض، ولا نتجاوز الحقيقة إن قلنا إنه كان صادماً للبعض الآخر، لا من حيث الاسم والاختيار بل بسبب موطن الكاردينال المختار، أي الولايات المتحدة الأميركية.

ولعله من يوم إعلان اسم البابا الجديد، وحتى الساعة، لا تزال هناك كثير من علامات الاستفهام القائمة والقادمة، التي قد تستمر طويلاً، حول الذي جرى في الكونكلاف، أي مجمع الكرادلة لاختيار البابا.

لماذا بابا أميركي، ولماذا لم يظهر على الشرفة بابا من أصول أوروبية عامة، وإيطالية خاصة؟

لماذا اختار الكاردينال بريفوست هذا الاسم "لاوون" تحديداً، وهل للاسم دلالات على سيرة ومسيرة البابوية القادمة؟ ثم السؤال الذي لا بد منه، هل كان لواشنطن دور أو نفوذ في عملية اختياره، وماذا عن أفكاره، هل تتسق مع الرؤى الأميركية للهيمنة على العالم، بمعنى هل سيكون إضافة روحية للولايات المتحدة، أم إن رؤاه وأفكاره السابقة، يمكن النظر إليها بوصفها اختصاماً من مقدرات "الإمبراطورية الأميركية المنفلتة"، بحسب المؤرخ الأميركي الشهير بول كيندي؟

كاردينال بريفوست... المتوقع الخفي 

ربما كان من الغريب للغاية أن يفكر أحدهم في أن يضحى كاردينالاً أميركياً، هو في الأصل راهب أوغسطيني، بابا الكنيسة الكاثوليكية الجديد، لا سيما أن هناك كثيراً من الكرادلة من أصحاب الأسماء المعروفة، كانوا يتقدمون صفوف الترشيحات، وعلى رأسهم الكاردينال الإيطالي بيترو بارولين، وحتى في حال كان هناك تفكير في مرشح أميركي، فقد كانت الأنظار معلقة بكاردينال نيويورك، المعروف جيداً للجميع، تيموثي دولاني.

 

 

لكن الواقع هو أن "ساعة الفاتيكان غير ساعة العالم"، ومن ثم  يبدو التفكير في داخل أروقة الفاتيكان تفكيراً مغايراً لما هو خارج أسوار الدولة ذات الوضعية الخاصة، بل ومختلف بالتأكيد عما هو معروف ومألوف خارج أبواب كنيسة "السيستين" حيث يجري الاقتراع.

هل كان الكاردينال بريفوست المتوقع الخفي وسط صفوف الكرادلة؟

في الواقع يبدو أن ذلك كذلك، لا سيما في ظل الثقة التي كان البابا فرنسيس يوليه إياها، وقد كان آخر المناصب، رئاسة دائرة الأساقفة في الفاتيكان، وهي المكتب المكلف تقديم المشورة للبابا في شأن تعيينات الأساقفة في شتى أنحاء العالم.

من ناحية أخرى، كانت التسعة أيام التي تلت وفاة البابا، حاسمة في لفت الانتباه إلى بريفوست.

كانت الأعين تتطلع إلى شخص كاريزماتي داخل أسوار الفاتيكان. التفكير الأولي كان لجهة وزير الخارجية الكاردينال بيترو باورلينن، لكن يبدو أن العظة الباهتة التي ألقاها خلال الأيام التسعة، عطفاً على الاتفاق السري الذي وقعه مع الصين، كلاهما قد خصما من حظوظه.

لم يكن كثر خارج الفاتيكان يدركون أن أسهم بريفوست تتصاعد في هدوء ومن غير جلبة أو صخب، لا سيما لخبرته العالمية، ذلك رغم أنه أميركي المولد فإنه لم يمض سوى ثلث حياته في الولايات المتحدة، بينما أمضى معظم ما تبقى منها في أوروبا وأميركا اللاتينية.

لم يمضِ على توليه منصبه سوى عامين، خلفاً للكاردينال الكندي مارك أويلت. غير أن ميوله الرعوية تجاه الناس، ظهرت واضحة، متجاوزة الاهتمام بالتفكير العقائدي التقليدي رغم أهميته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كانت تصريحاته إشارة واضحة إلى أن الأمور بدأت تتخذ طريقها نحو اتجاه رعوي جديد، وأن مكتبه كان معنياً سابقاً باستخدام العقيدة معياراً حاسماً، بدأ يعيد ترتيب أولوياته في اختيار المرشحين لرئاسة الأساقفة. ومثل البابا فرنسيس، كان بريفوست مهتماً باختيار الأساقفة المحتملين الذين يتبنون نهج "الرعاة أولاً" في قيادة الكنيسة.

لم يلتفت كثر من المراقبين لشؤون الفاتيكان، إلى قرب الرجل من البابا فرنسيس، فهو الذي استدعاه إلى العمل في الكوريا الرومانية بدوام كامل عام 2023، ومن وقتها بدأ يتمتع بسمعة طيبة في الاجتهاد، حيث يقضي كثيراً من الوقت في العمل على تحديد الأساقفة الجدد كما يفعل في التعامل مع القضايا المعقدة.

كان بريفوست أحد القادرين على جلب خبرة رعوية إلى الطاولة، وهو الذي نجح كثيراً في خدمته في بيرو منذ عام 1985 وحتى عام 1999، وهناك عاش فقيراً وسط الفقراء، أحبهم وأحبوه، ولعل هذا ما جعله قريباً من منظور فرنسيس الروحي عن "كنيسة للفقراء"، كنيسة تسعى في درب بطرس الصياد المليء بالضيقات، لا طريق الإمبراطور قسطنطين المكلل بالغار.

في خروج بريفوست إلى النور 

في مقابلة مع "فاتيكان نيوز" عام 2023، ربط بريفوست بين فكرة "الكنيسة السينودسية" أو "الكنيسة المجمعية"، بمعنى الكنيسة الشاملة الجامعة الأكثر تشاركية، لا الجزر المنعزلة حول العالم.

عطفاً على ذلك، بدت هناك ميزة أخرى في بريفوست، ميزة موصولة بخلفيته في القانون الكنسي، مما يوفر الراحة للمتشككين في فكرة السينودسية الذين يشعرون بالقلق من أنها قد تشكل تهديدات لتقاليد الكنيسة.

 

 

ومن جانب آخر، يتمتع بريفوست بميزة أخرى، فهو يجيد عديداً من اللغات، إذ يتحدث الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والفرنسية والبرتغالية، ويمكنه قراءة اللاتينية والألمانية، ما يمنحه القدرة على التواصل مع زملائه الكرادلة بطرق لا يستطيع الآخرون القيام بها.

كانت قدرته اللغوية، وخبرته في السفر الدولي بصفته رئيساً لرهبنته الدينية، وعمله في تحديد الأساقفة الكاثوليك حول العالم، تعني أنه مرشح متقدم جداً.

أما عن صفاته الشخصية، فعلى رغم إتقانه كثيراً من الألسنة، فإنه ليس كثير الكلام، وعندما يتحدث فإنه يفعل ذلك بحذر شديد وتأن كبير. رجل متحفظ ذو أسلوب متحفظ، بدا أنه غير مهموم أو محموم بحملة انتخابية تقوده إلى "السدة البطرسية"، لكن عزيمته الفولاذية المعروفة، جعلت منه في أعين الكرادلة، خياراً يريح الباحثين عن قائد يعرف إلى أين يريد أن يذهب وكيف يصل.

عملت هذه العناصر مجتمعة على جعله الخيار الأول لكرادلة المجمع، حتى ولو كان بعضهم متردداً في التصويت لمرشح أميركي.

يصف ستيفن زورلو من صحيفة "آل جورنال" الإيطالية، ما جرى في الأيام التسعة التي التقى فيها الكرادلة لاختيار حبر أعظم جديد، مشيراً إلى أن العالم كله كان ينظر إلى الكاردينال بارولين بنوع خاص، وإلى الكتلة الأوروبية التي ستدعم مسيرته، لا سيما الكرادلة الإيطاليين الذين فقدوا كرسي البابوية منذ عام 1978، وحتى اليوم.

المثير الذي يبطل حديث أي مؤامرات خارجية للتدخل في شأن اختيار البابا، أن بريفوست كان على الدوام في الصفوف الخلفية للمرشحين للبابوية، ظاهرياً في الأقل.

كان هناك دائماً في المقدمة: بييترو بارولين. بارولين الذي وصف "اضطراباته" لصديق طفولته روبرتو أمبروزي، صاحب النزل في ماروستيكا، كما ذكر فرانشيسكو بويزي في صحيفة "جورنالي".

ولقد تم فهم تلك الكلمة "اضطراب" على أنها فأل خير. لم يحدث الأمر بهذه الطريقة. بارولين هو الخاسر الأكبر، حتى وإن كان من الصعب أن نقول كيف حدثت نقطة التحول التي لم يتوقعها كثر. يفترض البعض أن بريفوست كان قد خرج إلى النور بالفعل خلال الاجتماعات العامة، والاجتماعات بين الكرادلة الذين احتلوا المجمع المقدس بعد جنازة فرانسيس. ربما يكون هناك بعض الحقيقة في هذا التحليل. 

 

 

في كل الأحوال، فإن الاجتماع التحضيري له دائماً أهمية كبيرة. وهذا الأمر يزداد سوءاً هذه المرة، حيث لا يكاد كثير من الكرادلة يعرفون أسماء زملائهم.

بدا الكرادلة بالفعل وكأنهم في حاجة إلى شخصية غير نمطية، للبابوية القادمة، تلك التي تواجهها عواصف عاتية حول العالم وعلى مختلف الصعد. 

ظهر بريفوست، كاردينالاً عند مفترق طرق الثقافات المختلفة: أب من أصول فرنسية وإيطالية وأم إسبانية. وبعد ذلك يأتي البعد التبشيري، ولكن من دون أن يفقد جذوره في الولايات المتحدة.

ماذا جرى داخل الكونكلاف الأخير؟

من الواضح أن هناك من كان يعمل على دفع بريفوست إلى الأعلى، لجهة البابوية، وقد نجح هذا أو هؤلاء، في جذب الناخبين من أميركا الشمالية والجنوبية، وخصوصاً الناخبين الناطقين باللغة الإنجليزية، أو بالأحرى أولئك المرتبطين بالكومنولث، أو باختصار الإمبراطورية البريطانية القديمة، من جنوب أفريقيا إلى الهند وجزر تونغا.

وبالعودة إلى مسألة توزيع الأصوات، كانت الكتلة الأوروبية تبلغ 53 صوتاً، مما رجح أنها ستصوت تلقائياً لمصلحة بارولين.

في غالب الأمر تحصل بارولين بالفعل على نحو 40 صوتاً، بحسب ما راج خلال التسعة أيام، وليست معلومات من داخل الكونكلاف، فهذه لا يعلمها إلا الله، والكرادلة الذين أقسموا قسم السرية بألا يبوح أحدهم بمجريات ما يحدث داخل كنيسة السيستين مرة وإلى الأبد.

عما قليل سيتبين أن بريفوست بدأ يحصد كثيراً من الأصوات في الظل، مع رؤية تحليلية تميل إلى القطع بأن أنصار البابا فرنسيس قد انقسموا في ما بينهم إلى مجموعات مختلفة، ولم يتمكنوا من تقديم مرشح بديل، وغالباً تبعثرت الأصوات بين الكاردينال الفرنسي المرموق جان مارك أفلين، والمالطي ماريو غريتش.

أحد الأسماء التي كثر الحديث عنها، الكاردينال الإيطالي الأصل بيير باتيستا بيتسابالا، الذي عُد صاحب حظ في التصويت، لكن كونه بطريرك القدس، وقد أقام 30 سنة من عمره في إسرائيل، ويجيد اللغة العبرية، ويحكي أن علاقته قوية بالسلطات الإسرائيلية، كما أن عرضه بأن يتم مبادلته بالرهائن الإسرائيليين الذين أسرتهم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وإن وجد صدى جيداً في وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية تحديداً، إلا أن كرادلة المجمع عَدوا أنه سيكون بابا مسيساً جداً حال التصويت له، وربما يعقد علاقة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بكثير من الدوائر الشرقية، العربية والإسلامية، تلك التي ما انفك البابا فرنسيس يهتم بها ويوليها كثيراً من الود الحقيقي، مما تمثل في وثيقة الأخوة الإنسانية وكثير من الزيارات الناجحة.

ما الذي جرى داخل الكونكلاف الأخير الأسبوع الماضي؟

من المستحيل أن نعرف ماذا حدث في كنيسة سيستين. بعد التصويت الأول، لا بد أن شيئاً ما قد حدث بين الكرادلة، وخصوصاً الأفارقة والآسيويين.

 

 

ولا بد أنهم رأوا في بريفوست الذي كان يحظى أيضاً بتقدير كبير في روما، ليس كممثل للقوة النافذة في العالم، بل أفضل تعبير عن الغرب الذي لا يتباهى بالغرور، بل هو قادر على إطلاق نفسه إلى ما هو أبعد من حدوده.

لقد حدث أمر ما، وغادر المرشح الأكثر احتمالاً المجمع، مما جعل الجميع يتذكر المقولة التقليدية في مثل تلك الأوقات "من يدخل الكونكلاف بابا يخرج كاردينالاً"، أي إن الحسابات والتوقعات لا تفيد البتة.

كانت هناك إشاعات واسعة حول حظوظ الكاردينال الفيليبيني أنطونيو تاغلي، الذي وجد بدوره دعماً من البابا فرنسيس من قبل، وعهد إليه بمهام مختلفة متقدمة.

عرف تاغلي بأنه "فرنسيس الآسيوي"، وقد مال كثر إلى فكرة بابويته، انطلاقاً من أنه قد يكون "شبكة الصياد" الجديدة بالنسبة إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في القارة الآسيوية، التي يتوقع لها البعض أن تكون قلب العالم الجديد.

تشير الإشاعات إلى أن الكاردينال بارولين، ربما توصل إلى اتفاق مع المفضلين لانتخاب تاغلي، بحيث يضمن تصويتهم له، لكن في نهاية الجلسة الرابعة من الكونكلاف، بدا أن هذا الاتفاق بدوره قد أخفق في إحراز نصر يقود إلى ثلثي الأصوات.

روبرت بريفوست يحصل على الثلثين

من الواضح أن نظرة ما تبلورت خلال أيام الإعداد للكونكلاف، نظرة كانت تختمر في هدوء، تجاه الكاردينال بريفوست العالم بشؤون الفاتيكان وسياساته، الذي يدرك إشكالية وجهات النظر المختلفة بين جناحي التقليديين والليبراليين، وهو عينه الرجل الذي يشغل منصب رئيس اللجنة البابوية لأميركا اللاتينية في مدينة الفاتيكان، أي المتواصل والمدرك حقيقة أوضاع 40 في المئة من تعداد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية المتجاوز 1.405 مليار نسمة.

خلال جلسات التشاور التي سبقت الكونكلاف، رأى الكرادلة من أميركا اللاتينية أن بريفوست واحد منهم، وفي الوقت عينه، نظر كرادلة أفريقيا وآسيا وأوروبا إلى بريفوست، بوصفه راهباً متواضعاً، وخبيراً معلماً، يتكلم دائماً عن "المحبة والتعليم" كخيار مقبول من الجميع، ومرشح تسوية بعدما أخفق الكاردينال بارولين في الحصول على ثلثي الأصوات، وكأن التاريخ يعيد ما جرى في 2013، حين كان الجميع يتوقع فوز الكاردينال أنجلو سوكولا، بطريرك البندقية بمنصب البابوية، بعد استقالة البابا بندكتوس، لكن البابوية مضت في طريق الكاردينال الأرجنتيني خورخي بيرغوليو.

هل كانت لحظة اختيار بريفوست متجاوزة لفكرة انتخاب بابا بشكل تقليدي كما الحال في كل مرة بعد وفاة أي حبر أعظم؟

بعد ثلاثة تصويتات، يخرج بريفوست بابا، في واحدة من أسرع انتخابات المجمع في التاريخ الحديث.

هنا من المرجح أن قادة الكنيسة كانوا حريصين على إظهار الوحدة بعد أعوام من الانقسام في عهد البابا فرنسيس.

يقول ماركو بوليتي، مراقب شؤون الفاتيكان "لقد كانت 10 أعوام من الحرب الأهلية"، في إشارة إلى المواجهات اللاهوتية بين التيار التقليدي المحافظ، الذي كثيراً ما اعترض على انفتاح فرنسيس على العالم، والليبراليين الذين دعموه، معتبرين أن الميزة الكبرى للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، تتمثل في كونها تتمتع بديناميكية كبيرة، تجعلها تتجاوز العقبات بل تقفز فوقها، وتتخطاها بنجاحات، مما يجعلها تكمل مسيرتها من غير خجل أو وجل.

كان السؤال المثير الذي تنتظره الجماهير الغفيرة في ساحة القديس بطرس بعد ظهر الخميس الماضي: هل سنرى فرنسيس جديداً يطل من الشرفة البابوية؟

تساؤل ربما يكون من الصعب الإجابة عنه بمثل هذه السرعة، حيث يحتاج الأمر إلى وقت كاف لفهم توجهات البابا "لاوون الرابع عشر" الاسم الذي اختاره بريفوست لحبريته.

 

 

في الكلمة الأولى التي ألقاها من شرفة القصر الرسولي، تمحور حديث البابا الجديد حول السلام والمصالح والحوار، الاهتمام بالفقراء والمهمشين، التضامن من أقنان الأرض، والمعذبين من الحروب، ومنادياً بالسلام الأعزل، وهذه جميعها تعني أنه سائر على درب فرنسيس لا محالة.

لكن في الوقت نفسه نأى بريفوست بنفسه عن الشخصية الدافئة والراديكالية التي اتسم بها سلفه الراحل، مما تبدى في طلعته على الجماهير، مرتدياً الوشاح الأحمر التقليدي للبابوات الذي كان آخر من ارتداه البابا بندكتوس، وهو ما رفض فرنسيس أن يرتديه في 2013.

بالنسبة إلى بعض الناس، فإن هذا يشكل تأكيداً في الأقل للمفهوم الشائع بأن البابوات الجدد يوازنون دائماً أسلافهم، وهو ما يتجسد في المثل الإيطالي الشهير "بابا سمين، بابا نحيف" .

هل لاوون الرابع عشر، هو البابا النحيف بعد البابا السمين الذي تحتاج إليه الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، البابا الذي يمكنه إدارة العرض ومتابعة الأمور بشكل فعال، والعمل على استعادة القليل من النظام في داخل الفاتيكان، بعدما يراه البعض من إرث مثير لبعض الجدل خلفه فرنسيس، مع كثير من المآثر التي أقدم عليها، التي ربما لم يضارعه أحد قبله في الإقدام عليها؟

لاوون الرابع عشر... المعنى والمبنى والدلالة

المؤكد أنه لا يمكن تقديم جواب عن علامة الاستفهام المتقدمة هذه، من غير التوقف ملياً عند الاسم الذي اختاره لحبريته، أي اسم لاوون الرابع عشر.

هنا ينبغي التوضيح، لا سيما بالنسبة إلى غير أهل الاختصاص في تاريخ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، حيث غالباً ما يختار الكاردينال المنتخب للبابوية اسماً جديداً لأحد القديسين، وقد يكون شفيعه لبابويته الجديدة.

تاريخياً يكاد يكون هناك بابا واحد لم يغير اسمه، ولد باسم "مارسيلو ديجلي سبانوتشي" (1501- 1555)، وقد احتفظ باسمه الأول عند انتخابه عام 1555، وهو آخر بابا حتى الآن احتفظ باسمه، ولم تستمر بابويته سوى 22 يوماً.

أما عن الاسم الوحيد الذي لم يستخدمه أي فائز بالبابوية، هو اسم "بطرس"، احتراماً للمؤسس الأول كبير الرسل القديس بطرس الذي تعده الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الخليفة الشرعي للسيد المسيح بحسب التفويض الممنوح به.

ماذا عن الكاردينال بريفوست؟

ربما توقع البعض أن يختار فرنسيس الثاني، امتداداً للبابا الراحل فرنسيس، لكن المفاجأة تمثلت في العودة إلى اسم حمله أحد البابوات قبل 100 عام تقريباً، وهو اسم لاون، وكأن لاوون الثالث عشر، الإيطالي الجنسية، قد شغل منصب البابوية في الفترة ما بين 1878 و1903، أي خدم كحبر أعظم لمدة 25 عاماً، وتعد بابويته رابع أطول بابوية في تاريخ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

ولعل أهم ما ميز تلك البابوية، صدور الرسالة العامة الاجتماعية المعروفة باسم Rerum novarum، أو "الأشياء الجديدة"، التي صدرت عام 1891، وفيها دافع عن ظروف عمل عادلة، وحقوق العمال في التفاوض الجماعي، وتشكيل النقابات، والحصول على أجر معيشي مجز.

بدت هذه المفاهيم في ذلك الوقت مفاهيم ثورية، وقد استبقت الثورة البلشفية في روسيا القيصرية بنحو ربع قرن، مما قطع ببعد نظر الكنيسة الكاثوليكية في القضايا الإنسانية المجتمعية، وليس فقط الإشكاليات الروحية والدينية.

عطفاً على ذلك، اتسمت بابوية لاوون الثالث عشر الطويلة بتواصل دبلوماسي مع دول العالم، حيث أراد للكنيسة أن تكون منتظمة حقاً في العالم، وأن تخدمه بكل الطرق الممكنة.

هل كان لاوون الثالث عشر في فكر البابا الجديد حين اختار الاسم نفسه؟

بعض المراقبين قال إنه من الممكن أن يكون فكر الكاردينال الأميركي بريفوست، ذهب إلى أول بابا يحمل اسم لاوون، أي القديس لاوون الكبير (400 – 461) ميلادية، الذي شغل منصب البابوية في الفترة ما بين عامي 440 و461 ميلادية، وعرف أيضاً بقيادته القوية، وتواصله مع العالم، وجهوده الاستثنائية في صنع السلام. وقد كان في الوقت ذاته، كاتباً وعالم لاهوت غزير الإنتاج، ولا تزال عظاته تقتبس وتدرس حتى اليوم بعد أكثر من 1500 عام.

لم يطل الانتظار لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء اختيار الاسم، ذلك أنه نهار السبت الماضي، وفي أول استقبال من البابا لكرادلة الكنيسة الكاثوليكية، قال بالنص "لقد اخترت أن أحمل اسم لاوون الـرابع عشر. هناك أسباب، ولكن السبب الرئيس هو أن البابا لاوون الثالث عشر من خلال الرسالة العامة "الأشياء الجديدة"، قد تناول المسألة الاجتماعية في خضم الثورة الصناعية الأولى، أما اليوم فتضع الكنيسة في متناول الجميع في تراثها في العقيدة الاجتماعية، حقائق جديدة موصولة بالثورة الصناعية الجديدة، وتطورات الذكاء الاصطناعي، بما تطرحه من تحديات في سبيل الدفاع عن كرامة الإنسان، وعن العدالة والعمل".

هل نحن إذن أمام بابوية مثيرة ملتحمة بالعالم في غير خجل أو وجل؟

التاريخ شاهد على الدور الناجز لهذه المؤسسة منذ زمن البابا لاوون الأول، أو لاوون الكبير، الذي التقى "أتيلا الهوني" (الهون كانوا شعباً من الرحل عاشوا في آسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا الشرقية بين القرنين الرابع والسادس الميلادي).

كان اللقاء قرب روما عام 452، وهو الحدث الأبرز في تاريخ العالم القديم. كان أتيلا يستعد لدخول روما وتدميرها. لكن بالاعتماد على الدعاء ومهاراته التفاوضية التي وهبها الله تعالى إياه، أقنع لاوون أو ليو آتيلا، بالتخلي عن خططه للهجوم. غادر آتيلا ونجت روما، على رغم أن الهون كانوا قد اجتاحوا ودمروا أجزاء كبيرة من الإمبراطورية الرومانية الشرقية والبلقان.

أما خارج تاريخ الكنيسة، فإن اسم ليو في اليونانية واللاتينية فيعني "الأسد" ويقال إنه يشير إلى الشجاعة والقوة، وهو اسم جدير بالاهتمام وله معنى عميق لآلاف السنين.

ربما يحتاج الأمر إلى إعادة قراءة لأفكار البابا الجديد، غير أن الخطاب يقرأ كما يقال من عنوانه، عبر كلمة الانتخاب، ثم ما فاه به في أول لقاء له مع الكرادلة. على أن الأحد القادم الـ18 من مايو (أيار) الجاري، سيكون يوم التنصيب، أي الاحتفال الطقوسي، عبر وضع خاتم بطرس الصياد في يده، والجميع ينتظر ما سيقوله في ذلك النهار.

لكن ما ختم به لقاءه مع الكرادلة السبت الماضي، ربما يشي بملامح ومعالم هذه البابوية، حيث استدعى من الماضي أمنية البابا بولس السادس (1963- 1978)، التي استهل بها خدمته البطرسية، وفيها قال "ليختر العالم كله لهيباً عظيماً من الإيمان والمحبة، يشعل قلوب جميع الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة، ويضيء لهم دروب التعاون المتبادل. ويجذب على البشرية على الدوام، فيض رضا الله وقوته، التي من دونها لا يكون لشيء قيمة، ولا يكون في شيء قداسة".

subtitle: 
كيف توزعت الأصوات وهل كان المرشح المفضل للجميع.. وما دلالة اختياره اسماً حمله أحد أهم البابوات في نهاية القرن التاسع عشر؟
publication date: 
الأربعاء, مايو 14, 2025 - 12:45
Read Entire Article