دبلوماسية الكارثة... كيف يتعامل طرفا حرب السودان مع الخارج؟

1 week ago 3
ARTICLE AD BOX

<p>التقاعس الملحوظ في المواقف الدولية، في تسريع وتيرة التدهور داخل السودان (غيتي)</p>

 بعد عامين منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في أبريل (نيسان) 2023، لم تعد الأزمة السودانية مجرد صراع داخلي، بل تحولت إلى اختبار حقيقي لأنماط التفاعل الدولي مع الدولة المنهارة، ففي ظل تآكل البنية السياسية والمؤسساتية، تحول طرفا النزاع إلى فاعلين يبحثان عن الشرعية من الخارج، عبر ما يمكن تسميته "دبلوماسية الكارثة"، إذ تستثمر المأساة الإنسانية كأداة ضغط في مواجهة المجتمع الدولي، لا بهدف الحل، بل لانتزاع الاعتراف والتموضع في النظام الإقليمي والدولي.

وفي المقابل، أسهمت حال الجمود والتقاعس الملحوظ في المواقف الدولية، في تسريع وتيرة التدهور داخل السودان، إذ تفاقمت موجات اللجوء والنزوح القسري واتسعت رقعة المجاعة وتصاعدت حدة العنف ذي الطابع الإثني. ونتيجة لذلك، أصبح المشهد السوداني محاطاً بقدر كبير من الغموض، إذ بات مستقبل الدولة يهدد ما تبقى من التماسك الاجتماعي والسياسي.

لا يظهر القتال في السودان أية بوادر انحسار، بل يستمر في التصاعد بصورة تُفاقم من حجم المعاناة، فقد فشلت جميع الجهود المبذولة لعقد محادثات سلام، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية والسياسية. ومنذ بداية الحرب، تكبدت البلاد خسائر بشرية ومادية فادحة، مما أسفر عن انهيار كامل تقريباً للحياة الاجتماعية والسياسية السودانية. ومع هذه الكوارث المستمرة، تظل المخاوف قائمة من تمدد الصراع إلى مناطق أخرى من البلاد، مما يهدد بمزيد من التصعيد وإطالة أمد العنف. وفي هذا السياق، تحولت خريطة الصراع لتشمل مناطق جديدة، على رأسها مدينة بورتسودان، التي أصبحت بؤرة إضافية في صراع لا يبدو له نهاية قريبة.

عقد اجتماع في باريس، خلال الـ15 من أبريل العام الماضي، تعهد خلاله المجتمع الدولي بتقديم مساعدات إنسانية تفوق المليار دولار، في محاولة للتخفيف من وطأة الأزمة الإنسانية التي توقعت هيئات الأمم المتحدة أن تصبح كارثية إذا استمر الوضع على ما هو عليه. ومع ذلك، أصبح النظر إلى الأزمة السودانية يتجاوز مجرد تأخر المساعدات الإنسانية، إذ تركز الاهتمام الآن على محاولات كبح استغلال طرفي النزاع للأزمة، سواء عبر تعزيز قبضتهما العسكرية أو من خلال استغلال المساعدات لتحقيق مكاسب سياسية، هذا التحول في الأجندات يعكس عمق الأزمة التي يعانيها السودان. ويشير إلى تعقيدات إضافية تحول دون إيجاد حل حاسم للصراع المستمر.

مسارات المساءلة

بعض الدول تتعامل ببراغماتية مع طرفي النزاع بناءً على مصالحها الجيوسياسية، لذلك، لا يجد الإصرار على ضرورة المحاسبة على تقارير الانتهاكات أذناً صاغية من قبل المجتمع الدولي. ومن ناحية أخرى، فإن تفاقم الكارثة قد يدفع لتدخلات أكبر تحت مظلة إنسانية، مما يعزز مسارات تفاوضية مفروضة خارجياً، بالتالي فإن الإلحاح على ضرورة فتح مسارات المساءلة، كما ورد في تقرير بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في السودان، الصادر خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، لا يجد تفاعلاً ملموساً، ضمن دوائر صنع القرار الدولي، فقد كشفت عن أن كلاً من طرفي النزاع، متورطان في أنماط ممنهجة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وشملت هذه الانتهاكات هجمات عشوائية ومباشرة على المدنيين، وقصفاً جوياً ومدفعياً استهدف المدارس والمستشفيات والبنى التحتية الحيوية، بما في ذلك شبكات المياه والكهرباء والاتصالات، وغيرها.

وفي مقابل هذا التواطؤ الضمني، ثمة مسار مواز يزداد ترسخاً، فكلما تفاقمت الكارثة الإنسانية، ازدادت فرص تدخل خارجي أوسع تحت شعارات الحماية والمساعدات، بما يمهد لفرض تسويات سياسية من خارج السياق المحلي، في إطار ما يمكن اعتباره إعادة هندسة للوضع السياسي في السودان وفق أولويات الفاعلين الخارجيين لا حاجات الداخل المنكوب، هذا الواقع يفضي إلى معادلة معقدة، تترك الحرب لتتمدد، فقط كي تنضج شروط التدخل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى المستوى المحلي، لا تبدو مواقف طرفي النزاع متساوية من حيث مقاربات التسوية. فبينما تتمسك القوات المسلحة السودانية بموقف متصلب، تعزوه بعض التقديرات إلى نفوذ التيار الإسلامي داخل الجيش، والذي يرى في استمرار الحرب وسيلة لتصفية قوات "الدعم السريع"، وإعادة هندسة السلطة لصالحه، فإن "الدعم السريع" أظهرت مرونة نسبية بقبول غالبية المبادرات الإقليمية والدولية الداعية لوقف إطلاق النار والدخول في حوار سلمي. ولكن التحول الأخير في موقف "الدعم السريع" من تجنب اتهام مصر بدعم الجيش، إلى توجيه قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، انتقادات علنية لها، بلغت ذروتها في تصريحاته الأخيرة التي دعا فيها إلى وقف تصدير المنتجات السودانية إلى مصر، متهماً القاهرة بالتورط المباشر في دعم الجيش، قد يفتح جبهة مع قوة إقليمية مؤثرة.

مفارقة جيوسياسية

في مفارقة جيوسياسية لافتة، تقف كل من روسيا وأوكرانيا، الخصمان اللدودان في ساحة المعركة الأوروآسيوية، في خندق واحد دعماً للجيش السوداني، وإن كان ذلك بدوافع متعارضة ومصالح متشابكة. فروسيا تواصل، عبر أدواتها الدبلوماسية في مجلس الأمن، دعم النظام السوداني بما ينسجم مع استراتيجيتها طويلة الأمد لترسيخ نفوذها داخل القارة الأفريقية، وطمعاً في الحصول على القاعدة العسكرية التي اتفق عليها مع الرئيس السابق عمر البشير. ومنذ اندلاع النزاع، أعادت موسكو ترتيب أدوات تدخلها، لتنتقل من دعم قوات "الدعم السريع"، كما كانت الحال خلال المراحل السابقة عبر مجموعة "فاغنر"، ثم "فيلق أفريقيا"، الذي ورث أدوار فاغنر بعد إعادة هيكلة الأذرع العسكرية غير النظامية الروسية في القارة.

أما أوكرانيا، فإن دعمها للجيش السوداني لا ينبع من تحالف استراتيجي مباشر، بل من رغبة في تقويض نفوذ الكيانات الروسية غير الرسمية في أفريقيا، وفي مقدمها "فاغنر" وامتداداتها الجديدة. ووفقاً لمصادر ميدانية من قاعدة وادي سيدنا الجوية في أم درمان، فقد أرسلت فرق أوكرانية فنية إلى السودان خلال الأسابيع الأولى من الحرب للمساعدة في إصلاح مقاتلات تابعة للجيش كانت تضررت بفعل قصف شنته "الدعم السريع". ويعد التفوق الجوي أحد أبرز عناصر القوة التي لا يزال الجيش يحتفظ بها في مواجهة خصم يتمدد برياً.

وأوردت تقارير عسكرية وجود عناصر قتالية من خلفيات روسية وأوكرانية في مواقع متفرقة داخل السودان، من العاصمة المثلثة إلى أطراف إقليم دارفور، في مؤشر واضح على تدويل الصراع وتحوله إلى ساحة مواجهة بالوكالة بين شبكات النفوذ الدولية، بما يضاعف تعقيدات المشهد ويقلص هامش الحلول الوطنية المستقلة. ومع استمرار الحرب، يتوقع أن يتواصل هذا الدعم طالما ظل السودان ساحة مفتوحة للمنافسة الجيوسياسية، من دون بوادر واضحة لحل سياسي شامل أو توازن داخلي مستقر.

هندسة المشهد

في مشهد إقليمي تتقاطع فيه الحسابات الأيديولوجية مع المصالح الاستراتيجية، يشهد السودان اصطفافاً متزايداً لقوى دولية وإقليمية حول طرفي النزاع، إذ يتلقى الجيش السوداني دعماً متنامياً من دول تتباين دوافعها بين الجيوسياسي والأيديولوجي، في مقابل تحالفات أفريقية نشطة تمد قوات "الدعم السريع" بالتمويل والغطاء السياسي واللوجيستي. فلم يعد الدعم العسكري الذي يتلقاه الجيش السوداني و"الدعم السريع" مجرد تحالف ظرفي، بل أصبح تعبيراً صريحاً عن توظيف كارثة إنسانية واسعة النطاق في خدمة أجندات توسعية متشابكة.

 وبرزت تركيا بعرضها طائرات "بيرقدار" المسيرة لدعم الجيش، مدفوعة برؤية عثمانية جديدة تسعى لاستعادة موطئ قدم استراتيجي في البحر الأحمر. وعلى نحو مواز، استعادت إيران حضورها القديم من بوابة التحالف مع الجنرال عبدالفتاح البرهان، مقدمة طائراتها المسيرة من طراز "مهاجر 6"، والتي لعبت دوراً حاسماً في استعادة مواقع استراتيجية من يد "الدعم السريع" في أم درمان. وعرضت الجزائر بدورها دعماً جوياً عبر طائرات مقاتلة، مدفوعة بهواجس أمنية عميقة تتعلق بانتقال الفوضى إلى دول الجوار، في ظل تآكل الدولة السودانية التقليدية.

وفي المعسكر المقابل، تستند قوات "الدعم السريع" إلى دعم غير معلن من دول أفريقية مثل تشاد وأفريقيا الوسطى والنيجر، إذ توفر لها ملاذات آمنة وشبكات تهريب وسلاح ومقاتلين، بما يفتح الباب أمام تشكل تكتل أفريقي عابر للحدود يسعى إلى فرض وقائع ميدانية تتجاوز منطق الدولة الوطنية، لإعادة تشكيل موازين القوى في السودان بما يخدم مصالحها الحدودية والإثنية، خصوصاً في إقليم دارفور المتداخل إثنياً مع حدودها.

 

تحولت الأزمة السودانية إلى تجسيد صارخ لإدارة التوازنات الجيوسياسية لا عبر آليات السلام أو مقاربات الحلول السياسية، بل من خلال إعادة رسم خرائط النفوذ وسط ركام دولة منهكة وفوضى أمنية وإنسانية متفاقمة. فبدلاً من أن تقابل المأساة السودانية باستجابات دولية تنطلق من منطلقات إنسانية أو قانونية، أصبحت ساحة الحرب مسرحاً مفتوحاً لتزاحم القوى الإقليمية والدولية، التي ترى في انهيار الدولة السودانية فرصة سانحة لإعادة التموضع الاستراتيجي، وتوسيع مجالات النفوذ من خلال أدوات الدعم العسكري والاستخباراتي والتقني.

ما يواجهه السودانيون الآن ليس استمرار الحرب فحسب، بل ما يرافقها من إعادة هندسة المشهد السوداني بما يخدم توازنات ما بعد الحرب.

سيناريوهات محتملة

في ضوء التدهور المستمر للأوضاع داخل السودان، والتعقيد المتزايد لتشابك الأبعاد الإقليمية والدولية في الصراع، تبرز ثلاثة سيناريوهات مستقبلية محتملة، تختلف من حيث مساراتها وحدة مآلاتها، لكنها تشترك في التأثر المباشر بمدى فاعلية المجتمع الدولي، وتحديداً الأمم المتحدة، في كسر منطق "دبلوماسية الكارثة" واستعادة منطق الحلول السياسية متعددة الأطراف.

السيناريو الأول، الانزلاق نحو الفوضى المقننة، إذ يستمر كل من الجيش و"الدعم السريع" في استغلال الانقسامات الدولية والإقليمية لترسيخ سلطتهما على الأرض، مع غياب أي ضغط دولي فاعل. ويتحول السودان تدريجاً إلى مساحة نزاع مفتوح تتقاطع فيها مصالح قوى أجنبية ذات أجندات متباينة، مع تصاعد دور وكلاء الحرب الإقليميين وشركات الأمن الخاصة.

 

في ظل ذلك، تتعمق المجاعة وينهار ما تبقى من المؤسسات، ويغدو السودان بؤرة قابلة لتصدير عدم الاستقرار إلى دول الجوار مثل تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا. وبهذا، يتحول الصراع إلى نموذج كلاسيكي لـ"دبلوماسية الكارثة"، إذ يعاد رسم النفوذ الدولي على أنقاض الدولة، وتغيب الحلول الإنسانية لمصلحة مكاسب استراتيجية.

السيناريو الثاني، تسوية إقليمية بتدخل بعض القوى الإقليمية المؤثرة في مفاوضات غير رسمية مع طرفي النزاع، بهدف التوصل إلى وقف إطلاق نار يحافظ على موازين القوى الراهنة. وتنجح هذه القوى في فرض نوع من التهدئة التكتيكية، لكن في حال لم يسمح لها الجيش بالنفاذ إلى البعد المؤسساتي اللازم لبناء سلام مستدام، فستكرس سلطة الأمر الواقع وتهمش العدالة الانتقالية، وتعطل محاولات إعادة هيكلة الدولة. وتستبعد الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي من دور قيادي، ويُختزل الحل في ترتيبات أمنية هشة.

أما السيناريو الثالث، انطلاق مسار دبلوماسي متعدد الأطراف شامل بقيادة الأمم المتحدة، وبدعم من الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، يستند إلى وقف فوري لإطلاق النار، وإغاثة إنسانية عاجلة، وتثبيت عملية سياسية شاملة تراعي مطالب المكونات السودانية كافة. وتُنشر قوات مراقبة دولية على الحدود لمنع تدفق الأسلحة، وتمارس ضغوط قوية على الأطراف المنخرطة في الصراع للانسحاب الفوري، ويعاد تفعيل دور الوساطة متعددة الأطراف، وتمنح المنظمات الدولية مساحة للعمل الإنساني من دون عراقيل. بهذا المسار، يمكن كبح "دبلوماسية الكارثة" وتحويل السودان إلى نموذج إيجابي للدبلوماسية الوقائية.

subtitle: 
تحول الجيش وقوات "الدعم السريع" إلى فاعلين يبحثان عن الشرعية باستثمار المأساة الإنسانية كأداة ضغط على المجتمع الدولي
publication date: 
السبت, مايو 10, 2025 - 20:00
Read Entire Article