ARTICLE AD BOX
تُخلّف دمشق اليوم وراءها عهداً زاد عن خمسين سنةً؛ أذاقها لباس الخوف والجوع؛ لتقف وسط دهشة العالم وإعجابه؛ تنفض عن كاهلها حملاً أثقله ما يزيد عن نيّفٍ وأربعين عاماً من عقوبات كانت تحول بينها وبين مواكبة ركب التقدّم في مختلف المجالات؛ عقوبات وضعت البلاد على هامش الاقتصاد العالمي والاستثمار الأجنبي والنظام المالي الدولي. فنراها تعلن نهاية مواجع الثورة في البلاد، يعقبها إعلان نهاية المقاطعة الاقتصادية التي فرضتها الجماعة الدولية منذ أكثر من عقد ونيّف من الزمن؛ ما يفتح الأبواب أمام "تكاملية" لا يمكن لدولةٍ أن تنمو بمعزلٍ عنها.
أما الحكومة السورية اليوم؛ فتبذل جهوداً دبلوماسية، ليس طلباً للمعونات؛ وإنما لتمكينها من أدوات النهضة والبناء، وإيجاد بيئة صالحة للاستثمار، مدركةً أنّ دولة اليوم لا يمكن أن تزدهر اقتصادياً أو تنمو سياسياً من دون أن تُمدّ لها أيدي المجتمع الدولي؛ فمن السنن الكونية أنّ مجتمعاً لا يمكن أن ينهض بمعزلٍ عن محيطه؛ باعتبار تبادل المصالح ركنَ أساسٍ في العلاقة الإنسانية.
ومن الواضح أنّ على السوريين معالجة آثار حربٍ أسهمت في تدمير الاقتصاد والزراعة والتجارة والصناعة والقطاعات الحيوية والبنى التحتية، فضلاً عن المرافق والمنازل والشوارع، وجعلت أكثر من 80 % منهم في الداخل تحت خطّ الفقر، كلّ ذلك في ظلّ صراع المصالح الذي لا تؤمن السياسة الدولية إلا بها منهجاً وسبيلاً، فموازين القوى التي يقوم عليها المجتمع الدولي؛ يُملي أن تضمن كلُّ قوةٍ موطئ قدم لها في مستقبل المشهد السوري، مهمةٌ ليست باليسيرة؛ غير أنهم لا يملكون سوى الفرار نحو الأمام.
وبينما يبتهج السوريون في دخول البلاد عهداً مبشّراً من الناحية الاقتصادية والسياسية، تؤكّد حقائق الأرقام التي يُعليها الواقع أنّ الفقر ما زال مرضاً مزمناً يعانيه الملايين منهم؛ ويشكّل هاجساً لملايين آخرين، كما أنّ المعركة القادمة ستكون معركة السوريين وحدهم، فسيحظون ربما بالإمداد والإعداد والإرشاد، سوى أنّ معركة البناء والنهضة ستخلو ساحتها إلا من تضحيات السوريين وبذلهم، وسعيهم في سبيل بناء مجدهم، وخوفهم على وطنهم.
الازدهار الاقتصادي لا يتحقّق باستيراد السلع وإنما بإنتاجها، ولا باستجداء الموارد وإنما بالبحث عنها واستثمارها
وينبغي أن لا يغيب عن السوريين أنّ الازدهار الاقتصادي لا يتحقّق باستيراد السلع وإنما بإنتاجها، ولا باستجداء الموارد وإنما بالبحث عنها واستثمارها، ولا بإطلاق عنان الشركات متعدّدة الجنسية وإنما بالتعاطي معها بتوازنٍ وحذر، ولا ببرامج صندوق النقد الدولي وقروضه وإنما بنظامٍ اقتصادي مدروس تُعين عليه الدول الصديقة، ولا بمشاريع البنك الدولي وإنما بمشاريع رجال الأعمال الوطنيين، ولا بالانفتاح على الأسواق العالمية من طرف واحد وإنما بإيجاد علاقة مقبولة بين استيرادٍ وتصدير، ولا بتقليد مسارات التقدّم والنهضة في بعض الدول وإنما بابتكارات أخرى تتناسب مع البيئة والثقافة والوقائع على الأرض.
كما عليهم أن يدركوا أنّ الزراعة في بلادنا لا تقلّ أهمية عن التجارة، وأنّ الصناعة المحلية لا بدّ أن تحظى باهتمامٍ تنافس به الصناعات الوافدة، وأنّ الحمائية في بعض الأحيان حلٌّ لا عقبة، كما أنّ عملية النهضة لا تكون إلا في مجتمع يُخدم فيه الإنسان كما تُخدم فيه الموارد، من حيث التعليم والثقافة والصحة وأسباب العيش الكريم، ولا يكفيها تدفق الرساميل ودورات الإنتاج والاستهلاك على الصعيد الاقتصادي.
إنّ ذلك كلّه ينشد إدراكاً واضحاً للنهج العام للاقتصاد والنهج العام للسياسة، ودراسةً متأنيةً لانتخاب ما يصلح لصناعة النهضة، وتعاوناً على تحقيقها، وصبراً جميلاً على واقع الحال حتى نشهد نهاية دورة البؤس والفقد والفقر، لتبدأ دورة التعافي الموصلة إلى النهضة والازدهار.
إنّ السوريين انتصروا في معركة المَيدان، ثم كسبوا بعزّةٍ معركة العقوبات وما تبعها من سنين الحرمان، ولن يتقهقروا اليوم إن شاء الله في معركة الوعي والصبر وبناء الإنسان.