ARTICLE AD BOX
في زمنٍ كانت فيه الصحافة الفنية مرآةً لصناعة النجوميّة، كانت الألقاب تُمنح كما تُمنح التيجان في حفلات التتويج: بشغفٍ نابض بالإعجاب، وبحبٍّ مغمور بالانبهار، وأحيانًا… بمجاملةٍ مصقولة بأناقة الحبر الصحافي.
لم تكن الألقاب مجرّد كلمات عابرة، بل كانت بصمات صوت، وتجسيدًا مكثّفًا لهويّة فنية تُختصر في عبارة واحدة.
من “كوكب الشرق” إلى “شحرورة الوادي”،
من “العندليب الأسمر” إلى “صوت الجبل”،
ومن “سفيرتنا إلى النجوم” إلى “سيدة الشاشة”…
لم تكن تلك التوصيفات محض زخرفة لغوية، بل ألقابًا وُلدت من وجدانٍ عاشق، وصياغةٍ رصينة، ومنحت أصحابها تذكرة عبور إلى الخلود.
لكن، لماذا وُجدت الألقاب؟
لأنّ الصحافة في الماضي لم تكن مجرد مرآةٍ تعكس الواقع، بل كانت شريكًا فعليًا في تشكيله.
لأنّ الناقد لم يكن ناقل انطباع، بل صانع صورة، ومهندس حضور.
ولأنّ الفن آنذاك كان يُقاس بما يتركه من أثر، لا بما يحققه من أرقام.
حين كان الصحافي يُطلق لقبًا، لم يكن يكتفي بالوصف، بل كان يستشرف ويُؤسّس. يمنح الفنان هوية شعرية تُضاف إلى اسمه، وتلازمه في مسيرته، أحيانًا من دون طلب، وأحيانًا دون أن يدرك كيف تسلّل اللقب إلى مسيرته، وسكنه إلى الأبد.
الفنان لا يختار لقبه… بل يُبتلى به أو يُبارك به
بعض الألقاب ارتبطت بأصحابها حتى باتت تُستحضر قبل أسمائهم، حتى لا يكاد يُقال “عبد الحليم” من دون “العندليب”، ولا “وديع الصافي” من دون “صوت الجبل”، ولا “فيروز” من دون “سفيرتنا إلى النجوم”.
وفي المقابل، هناك فنانون لا يرتاحون لفكرة الألقاب، ولا يقبلون بأن تُسبق أسماؤهم بتوصيف، مؤمنين بأنّ العمل وحده هو الهوية، وأنّ الألقاب قد تُختصر لتُقيّد، وقد تُجمّل لتُضعف.
تغيّر الزمن… وسقط اللقب من عرشه الذهبي
في عصر المنصّات الرقمية، لم تعد الصحافة هي التي تمنح “الختم”.
صار الجمهور هو القاضي، وهو المعيار، وهو الحكم.
صار الاسم توقيعًا، والصوت برهانًا، والحضور دليلًا لا يُردّ.
الألقاب تراجعت، والمنصّات لا تعترف بها.
حتى المقالات باتت تُسرف في عبارات مثل “الفنان القدير”، و”النجم الكبير”، وكأنها تطهو وجبة فارغة الطعم، وتحاول إقناع المتلقّي بأن النكهة موجودة في التسمية فقط.
الفنانون الناشئون… جيل بلا ألقاب ولكن بأسماء حادّة
هذا الجيل لا يرث الألقاب، ولا يلهث خلفها.
يصنع أسماءه من كلمة، من رمز، من اختصار ذكي.
يتعامل مع الاسم كعلامة تجارية، كهاشتاغ حيّ، كهوية سمعية وبصرية.
بعضهم يختار اسمه وفق قابلية البحث، وبعضهم الآخر يراعي وقع الكلمة وفرادتها.
في هذا الزمن، الاسم ليس تابعًا لمجدٍ صحافي، بل مشروعٌ مستقلّ، وتوقيعٌ رقمي لا يشبه أحدًا.
وفي المقابل… بعض الفنانين لا يقبلون أن يُذكر اسمهم دون لقب
هناك من يرفض نشر خبر عنه إن لم يُرفق بلقبه: “القيثارة”، “الصوت الجبلي”، “الفنان الكبير”، “صاحبة الصوت الاستثنائي”…
ربما لأن اللقب بات بالنسبة إليه صكّ استمرارية، أو درعًا من الهيبة، أو ببساطة… عادةٌ ألفها ولا يريد كسرها.
وفي بعض الأعمال، يُصرّ الفنان أو شركته المنتجة على إدراج اللقب في الشارة أو على البوستر، وكأنّ الاسم وحده لا يكفي ليحمل الهيبة، أو كأنّ كلمة “القدير” باتت بديلاً مُريحًا عن السيرة الذاتية.
الصحافة الجديدة… ألقاب بلا معنى
مؤسف أن تتحوّل بعض الألقاب إلى ملء فراغ لغوي.
القاب كثيرة وكلمات تُرمى عشوائيًا، بلا مرجعية، بلا دقّة، بلا استحقاق.
لكنّ الجمهور لم يعُد يُخدع بالبريق، ولا بالتصنيفات المجانية.
ما يعنيه الآن ليس التوصيف… بل الصدق.
لا اللقب… بل الصوت.
لا الزينة… بل الجوهر.
هل انتهت مرحلة الألقاب؟
ربما. أو على الأقل، انحسرت وتوارَت خلف وهج الحضور الحقيقي.
لكنها لم تختفِ كليًا،
لأن بعضها تحوّل إلى ذاكرة، إلى طيف، إلى نبضٍ مشترك.
حين يُقال “سيدة الشاشة”، لا يُفكَّر بغير فاتن حمامة.
وحين يُقال “الشحرورة”، تضيء صباح… لا اسمًا ولا ملامح، بل طاقة وبهجة وعمرٌ لا يُختصر.
الخاتمة… حين يشيخ التاج وتبقى البصمة
الألقاب الفنيّة، كما الأوسمة، إمّا أن تُعلّق على صدر الحقيقة، أو تُلقى على رفّ المبالغات.
اللقب لا يصنع فنانًا، بل الفن هو من يمنح اللقب وزنه وشرعيته.
وما لم يُدعَّم بلحظة صدق، وبعملٍ خالد، وبأثرٍ يبقى… فإن كل لقب مآله النسيان.
في النهاية…
الألقاب تموت، والأسماء تُخلّد بما تترك من أثر.
والفنّ، حين يكون صادقًا، لا يحتاج إلى لقب،
بل إلى لحظة واحدة فقط… تنحت الاسم في ذاكرة الزمن.
فيا من تبحثون عن وصفٍ يحميكم من النسيان…
تذكّروا:
الاسم، حين يكتبه الإبداع… لا يحتاج وسامًا ليبقى.
بقلم شربل الغاوي.