رأي خاص- جورجيت صايغ… فراشة الرحابنة التي انسحبت بصمت

3 days ago 7
ARTICLE AD BOX

في مشهد فني لبناني كان يضجّ بالأصوات الذهبية، والوجوه المتألقة على مسارح الرحابنة، خرجت جورجيت صايغ كنسمة خفيفة، رقيقة، صافية، دخلت القلب من دون استئذان، وانسحبت منه في لحظة تعب، دون ضجيج ولا وداع.

العبور الخاطف من المجد إلى الظل

في السبعينيات، كانت جورجيت صايغ واحدة من أكثر الوجوه المحبوبة على الشاشة والمسرح. ليست نجمة بالمعنى التجاري، لكنها كانت “الروح”، العنصر الذي يمنح أي عمل فني دفئه، عمقه، وأنوثته الذكية. في مسرحية “سهرية”، رسمت دور “ياسمين” بحسّ طفولي وشجن داخلي يصعب تمثيله. كانت تمثّل وتغني وترقص كما لو أنها خُلقت للمسرح، وكأن الخشبة امتداد طبيعي لجسدها وروحها.

لكن هذه الفراشة، بكلّ ألوانها، لم تدم طويلاً في الضوء. جاء انسحابها مبكرًا، وبدا كما لو أنه قرار داخلي أكثر منه انسحاب قسري. قيل إنها اعتزلت لأسباب عائلية، وقيل إن الفن لم يكن يومًا هاجسها الأول. لكن المؤكد أن غيابها ترك فجوة في ذاكرة الفن اللبناني.

صوت كالماء

لم تكن جورجيت صايغ من النوع الذي يستعرض صوته. أغانيها كانت تشبهها: هادئة، ناعمة، صادقة. في “دلوني على العيون السود”، لم تصرخ، لم تتفاخر، بل همست لنا بحنينها. في “نطرني”، لم تكن تنتظر حبيبًا فقط، بل كانت تنتظر عودة زمن كامل لم يعد.

صوتها لم يكن يستعرض قوته، بل كان يربّت على أوجاع المستمع بلطف الأم وصدق العاشقة.

في رحاب الرحابنة وزياد

عملها مع الأخوين رحباني ثم مع زياد الرحباني في بداياته، يؤكد أنها كانت جزءًا من مرحلة انتقالية في الفن اللبناني: من المسرح الغنائي الكلاسيكي إلى المسرح الواقعي الذكي. زياد لم يمنح الأدوار عبثًا. عندما كتب “سهرية”، كان يعرف أن جورجيت هي “ياسمين”، المراهقة الهاربة من واقع مرّ، الباحثة عن وطن صغير اسمه “الحب”.

الغياب الأشد إيلامًا

لكن الغياب لم يكن مجرد قرار. مع مرور الزمن، ومع اشتداد العزلة، بدأت جورجيت صايغ تعاني من متاعب صحيّة، أهمها فقدان البصر. لم يعد الضوء يصل إلى عينيها، لكن بقيت ذاكرتها الحيّة تصل إلى قلوب جمهورها. ظهورها الأخير في برنامج “أحمر بالخط العريض” لم يكن حنينًا بقدر ما كان صرخة وجع، صدى لفنانة ظنّت أن الفن بيت دافئ، قبل أن يتبيّن لها أنه أحيانًا يُغلق أبوابه في وجه الأوفياء.

الوفاء الذي ننساه

جورجيت صايغ ليست مجرد اسم عابر في أرشيف التلفزيون اللبناني. هي مرآة لجيل كامل من الفنانين الذين أحبوا الفن بصدق، لكنهم لم يساوموا عليه. لم تركض خلف المال، ولم تركب موجة الشهرة. كانت تنتمي إلى زمن “الأصالة”، وعندما انتهى هذا الزمن، انسحبت معه.

اليوم، وهي تعيش في عزلة صحية وإنسانية، يحق لنا أن نسأل: هل نكرّم فنانينا كما يجب؟ هل نكتفي بالتصفيق لهم وهم على المسرح، ثم نتركهم في العتمة حين تُطفأ الأضواء؟

بقلم مايا إبراهيم.

Read Entire Article