رأي خاص- غسان صليبا… حين يغنّي النص ويُمثّل اللحن

11 hours ago 5
ARTICLE AD BOX

كأنّه خرج من رحم القصيدة، لا من جدران معهد أو قاعات تدريب. غسان صليبا ليس مجرّد فنان يؤدي الأدوار أو يردّد الألحان، بل هو كائن مسرحي نُحت من غبار الملاحم، وعُجن بصوتٍ تتهدّل منه الأحاسيس كما تهطل القصيدة على شفاه الشعراء. إنّه ذاك النوع النادر من الحضور الذي لا يُؤتى به، بل يُستدعى من طبقات العمق، ليقيم على الخشبة قدّاسًا من جمال وصدق.

الخشبة… مذبح صليبا المقدّس

على المسرح، لا يقف غسان صليبا كممثّلٍ في حالة أداء، بل كمُرتّلٍ في حضرة الكلمة. حضوره لا يُقاس بعلوّ الصوت، بل برنين المعنى حين يمرّ على حنجرته، فينبعث فيه دفءٌ كأنّه تنفّس الأرض. حين يظهر، تتبدّل أبعاد المكان، وتُستدعى الذاكرة الجماعية للمسرح لتُصفّق لابنها العائد من الضوء. لا يؤدي الشخصية، بل يلبسها كما يُلبس الجسد روحًا، فيغدو الدور أكثر من كيانٍ مكتوب، بل كائن حيّ ينبض على وقع النظرة، والوقفات، والانفجارات الصامتة.

هو لا يُجسّد الشخصيّة، بل يُجسّد انفعالاتها التي لم تُكتب، ويعيد ترتيب النصّ على قياس الحنين، والوجع، والدهشة. صوته ليس أداءً، بل طقسٌ داخلي، يبدأ حين يُغلق الجمهور أعينهم، لا ليسمعوا، بل ليحسّوا ارتجاج الجملة بين أضلاعهم.

الغناء… من مقام الجرح لا من مقام النغمة

في غنائه، لا يمرّ على الألحان مرور العابرين، بل يغوص فيها كمن يبحث عن كنزٍ مطمور في طبقات الصمت. لا يُغنّي ليُطرب، بل ليُفصح، ليبوح، ليغسل ما تكدّس في أرواحنا من حزنٍ متراكم. كلّ نغمة عنده شظيّة شعور، وكلّ بيتٍ غنائيٍّ ترجمةٌ لصدى خفيّ في وجدان الإنسان.

الغناء عند صليبا ليس زينةً للنصّ، بل جوهره. لا يُغنّي من حنجرته، بل من ذاكرته، من جرحٍ في الطفولة، من حبٍّ فاته القطار، من صلاةٍ لم تُكملها العيون الباكية. هو الغناء حين يكون دراما، واللحن حين يكون سيرةً شخصية.

الكاميرا… عدسة على ما لا يُقال

حين انتقل إلى الشاشة، لم يُجرّد أدواته المسرحية، بل صقلها لتناسب حدّة العدسة. أمام الكاميرا، بدا كمن خفّف من بريق النار، ليكشف عن جمرةٍ تحترق بهدوء. أداؤه لا يصرخ، بل يهمس. لا يهاجم المشهد، بل يتسلّل إليه كضوء الصباح حين يدخل من شقّ نافذة.

في عينيه، تتقلّب الحكاية قبل أن تُقال، وفي ملامحه صراعٌ بين القول واللا قول. هو ذلك الممثل الذي إذا صمت نطق، وإذا نطق، أوجع. يعرف كيف يجعل من الجملة لحظةً حميمة، ومن السكون فعلًا دراميًا بالغ التعبير.

فنانٌ يُشبه قَسَمًا قديمًا للفن

ما يفعله غسان صليبا لا يُشبِه أداءَ فنانٍ يعتلي الخشبة ليحظى بالتصفيق، بل يُشبِه رجلًا قديم العهد بالفن، أقسم أن لا يعتليه إلا مطهّرًا من الزيف. هو تجلٍ نادر للفن حين يكون فعل عبادة، لا عرضًا للبيع. من كلّ نَفَسٍ يطلقه، ينبعث صدقٌ لا يُصطنع، ومن كلّ ظهورٍ له، يرتجف النصُّ فرحًا بمن يُعيد إليه الحياة.

في زمنٍ كثُر فيه الوجوه وقلّ الجوهر، بقي صليبا شاهدًا على زمنٍ كانت فيه الكلمة ميزانًا، والأداء موقفًا، والغناء صلاةً تُقام على وقع القلب. لم يتوسّل الإعجاب، بل سكن القلوب لأنّه لم يطلبها. لم يستعرض مهاراته، بل تركها تنمو في الظلّ، حتى أينعت وفرضت حضورها بشموخ.

الختام… لا يُكتب، بل يُختم

غسان صليبا هو العنوان الذي يسبق اسمه، وهو الفكرة التي تُغني عن التعريف. لا يُلخَّص، ولا يُكرَّر، لأنّه لا يُشبه أحدًا. هو ابن الخشبة البكر، وصوت الشجن القديم، وصورة الفنّ قبل أن تُخدشها المرايا.

هو حين يغنّي، يُحاور الزمان. وحين يُمثّل، يوقظ اللغة من سباتها. في حضوره، يصير المسرح قِبلةً، والصوت وطنًا، والفنّ حكايةً لا تنتهي.

نذكر أن غسّان صليبا يستعدّ لإطلاق فيديوكليب أغنيته الجديدة “يا وجه السّعد” قريبًا. كما سبق وكشف عن مواصلة التّحضيرات لأغنية أخرى ضمن ألبومه الجديد المرتقب لعام ٢٠٢٥ الّذي وعد بأنّه سيحمل الكثير من الإبداع والمفاجآت ويجمع بين الأصالة والتّجديد، ما يُبشّر بعودة فنّيّة قويّة له إلى السّاحة.

بقلم شربل الغاوي.

Read Entire Article