ARTICLE AD BOX
في مساءٍ استثنائي، كانت فيه الخشبة أكثر من مجرّد خشبة، وكانت فيه الستارة أكثر من قماش يُسدل، عادت كارول سماحة إلى المسرح بعد غيابٍ دام ثمانية عشر عامًا، لا كممثلة تؤدّي دورًا، بل كحكايةٍ تُروى على جسدٍ نابضٍ بالحزن والعناد.
عادت… ولم تكن عودتها مجرّد حدث فني، بل فعل مقاومة، مواجهة للقدر، وللفقد، وللغياب الذي طرق بابها قبل أيامٍ قليلة من العرض، حين غيّب الموت زوجها ورفيق دربها، المنتج وليد مصطفى. كان بإمكانها أن تؤجل، أن تنسحب، أن تصمت. لكنها اختارت أن تصعد، أن تغنّي، أن تتنفّس فوق رماد الحداد، لتُعلن بجرأة أن المسرح لا يتراجع أمام الموت، بل يحتضنه ويحوّله إلى لحنٍ خالد.
على متن سفينة تُبحر بالمصادفة والهوى
“كلّو مسموح” ليست مجرد مسرحية، بل رقصة على سطح المجهول. هي النسخة المعرّبة من رائعة برودواي الكلاسيكية Anything Goes، لكنّها في يد فريقها اللبناني، وتحت أجنحة كارول، تحوّلت إلى عرضٍ يعجن الكوميديا بالمرارة، ويعيد الحياة إلى السفينة التي لا تبحر فوق الماء فقط، بل في دواخل الشخصيات.
على متن باخرة متّجهة من نيويورك إلى لندن، يختبئ الشاب كريم (روي الخوري) لملاحقة حبيبته التي ارتبطت بخطيبٍ ثريّ (دوري سمراني). في المشهد، تدخل «ياسمينا» (كارول سماحة)، مغنية الملاهي الليلية التي تحمل لسانها كما تحمل قلبها: صريحًا، متوهّجًا، عاشقًا. ويعيث المجرم الهارب “مجاعص” (فؤاد يمين) فسادًا ساحرًا، بصحبة «ألمازا» (جوي كرم)، لتكتمل الفوضى المحببة التي لا تنتهي إلّا بالموسيقى.
الحبّ في المسرحية ليس مستقيمًا، والنية ليست بريئة، والكوميديا ليست سطحية. كلّ شيء مشوّش… وكلّو مسموح.
كارول… حين تغنّي باسم الغائب
كارول لم تمثل فقط. لقد أنشدت باسم الغائب، وغنّت على أنقاض الحنين. كانت كلّ وقفة على الخشبة صلاة، وكلّ نغمة عزاءً يحمل طيف وليد مصطفى. لقد أكملت العرض، ليس عنادًا، بل وفاء. فالراحل، كما روت، أوصاها أن تكمل… أن تستمر. وكأنها تنفّذ وصيّته بصوتٍ مكسورٍ من شدّة الإيمان.
كانت على الخشبة سيّدة التعب، ورمز التجاوز، وسفيرة الحياة حين تكون الحياة في أقسى حالاتها. لم تُخفِ دمعتها، لكنّها لم تسمح لها أن تعيق الأغنية.
الجمهور… شهودٌ على التحدي
افتتاح العرض تحوّل إلى تظاهرة حبّ وتقدير. تقدّمت ماجدة الرومي من الصفوف الأولى، تلتها إلهام شاهين، ورد الخال، وسارة أبي كنعان، وغيرهم من الوجوه التي جاءت لا لتشاهد مسرحية فقط، بل لتقف إجلالًا أمام مشهد امرأة تُنقذ ذاتها بالمسرح.
كان الحضور شهودًا على لحظةٍ مسرحيّة نادرة، فيها الفنّ يضمد الجرح، ويعيد ترتيب الفوضى بنوتة موسيقية أو رقصة خفيفة.
العرض… حين يتواطأ الرقص مع الفكرة
إخراج روي الخوري أتى نابضًا بالحياة، متدفقًا كالموج. إلى جانبه، فؤاد يمين كاتبًا وممثّلًا، حوّلا النص العالمي إلى مشهد لبنانيّ الهوى، عابق باللعب اللفظي والروح الساخرة. عشرة ممثلين، عشرون راقصًا وراقصة، وستة عشر موسيقيًّا حيًا… كلها عناصر اندمجت في لوحةٍ واحدة، حيث لا فاصل بين المشهد والغناء، بين الجملة والحركة، بين الألم والضحك.
“كلّو مسموح” ليست فقط شعارًا للمسرحية، بل فلسفة عرضٍ يُبيح للحياة أن تتمادى، وللفنّ أن يعبث، وللخسارة أن تُغنّى.
في الختام… المسرح لا يعرف العزاء
ليست كارول سماحة وحدها من اعتلت الخشبة. بل اعتلاها الفنّ نفسه، معتذرًا عن الغياب الطويل، مستعيدًا وجهه الجميل في زمنٍ شحيح بالدهشة.
“كلّو مسموح” ليست مجرد عرضٍ مسرحي. هي نشيدُ نجاةٍ في وجه الغرق، وباقةُ وردٍ على قبر الغياب، ورسالة لكلّ من فقد: أن الفنّ لا يُلغي الحزن، لكنه يُعيد تشكيله.
بقلم شربل الغاوي.