رأي خاص- لماذا بات الممثل الحقيقي يقصى عن الضوء؟ 

2 days ago 6
ARTICLE AD BOX

في زمنٍ باتت فيه الموهبة تهمًا، والخبرة عبئًا، والتاريخ الفني مجرّد سطر يُمرّ عليه المنتجون بفتور، يظهر سؤال موجع بحجم المهنة نفسها: لماذا يُقصى الممثل الحقيقي عن الضوء؟ ولماذا يغيب من كرّس عمره للتمثيل، بينما تُمنح الأدوار لمن لا يملكون سوى الجاهزية اللحظية؟

ليس الإقصاء مجرّد غياب مؤقت. إنّه فعل إلغاء. خنقٌ بصمت. وضعٌ مقصود خارج اللعبة، وكأن الممثل الذي عرف الأدوار المركبة، واشتغل على ملامحه كما تُشتغل المنحوتات، لم يعد مناسبًا للّوحة الحالية. لوحة لا تحتاج إلى عمق، بل إلى خفّة… لا إلى مسار، بل إلى مرور.

في هذه الصناعة، ثمة ممثلون كثر لم يُقال لهم “أنت لا تصلح”، بل ما هو أشد قسوة: لم يُقال لهم شيء على الإطلاق. ساد صمتٌ ثقيل، واستُبدلت الدعوات بأبوابٍ موصدة، واستُبدلت العروض بالانتظار القاسي.

أليست ورد الخال، مثلًا، حين صرّحت أنها تعدّ الأيام التي تمرّ دون عمل، تمثل صوتًا من أصوات كثيرة اختنقت داخل المرايا؟ هي لم تحتج، بل تألمت. لم تصرخ، بل همست بما يكفي أن نفهم حجم الفجوة. ومثلها كثيرون… ممثلون وممثلات عابرون في ذاكرة كل بيت، محبّون لمهنتهم، خاضوا تفاصيل الشخصية بشغف، وكتبوا على أجسادهم جغرافيا الأدوار، لكنهم اليوم خارج الكادر.

فمن المسؤول عن هذا الإقصاء؟

هل هو الممثل نفسه، الذي رفض في لحظة ما عملاً لا يليق بتاريخه؟

أم هو المُنتج الذي بات يبحث عن “المرونة” لا العمق، عن الهدوء لا الطموح، عن الحضور لا البصمة؟

أم أن المسألة أبعد من الأفراد، وأقرب إلى أزمة داخل بنية الصناعة الفنية نفسها، حيث تُمنَح الأدوار لا بحسب الجدارة، بل وفقًا لحساباتٍ لا علاقة لها بالفن؟

هل المشكلة في أن بعض الممثلين لم “يُسايروا” اللعبة؟ لم يجاملوا، لم يظهروا حيث يُفترض أن يظهروا، لم يحضروا في الأمكنة التي تُكتب فيها الكاستينغات؟

هل صار يُنظر إلى الصدق المهني كتعقيد؟ وإلى السؤال عن تفاصيل الشخصية كمصدر “إزعاج”؟

هل من الطبيعي أن يُعاقَب الممثل لأنه مخلص؟ لأنه لا يُجيد التلوّن؟ لأنه رفض أن يكون صدى، واختار أن يكون صوتًا؟

ثم ماذا عن الموهبة التي تُصبح مع الوقت أكثر نضجًا، أكثر احترافًا؟

أليست هذه النضوجات تستحق فرصة، لا غيابًا؟

ألا يجب أن يكون الزمن سندًا للممثل، لا عدوًا له؟

أليس من الطبيعي أن يكون الفنان، كلما تقدّم في الخبرة، أكثر حضورًا في الأدوار التي تتطلّب عمقًا وشرعية فنية؟

إن ما يجري اليوم هو أشبه بمحاولة شطب غير معلَنة.

لا تُرفَع ورقة سوداء على الأسماء. لا تصدر مذكرات توقيف.

لكن الصمت أبلغ من كل قرار.

الإهمال أشرس من كل نقد.

والنسيان المقصود أقسى من كل إقصاء مباشر.

وهنا لا بد من القول إن الإقصاء لا يُحبط فحسب، بل يُربك المنظومة كلها.

حين يُقصى ممثلٌ كان يمكنه أن يرفع منسوب الأداء العام، فذلك يُضعف جودة العمل.

وحين تُغيب وجوهٌ رسّخت لدى الجمهور ذاكرة وجدانية، فإن ذلك يُفقر السياق، ويفكك العلاقة المتبادلة بين الفنّ والمشاهد.

الفن ليس مزاجًا، ولا حركة عبثية.

هو مشروع ثقافي، يحتاج إلى ذاكرة، إلى امتداد، إلى مَن يُجيدون صناعة اللحظة والعبور منها إلى الأثر.

والممثل الذي اختبر المسرح والكاميرا والوجع، لا يمكن أن يُقابل بالصمت.

في زمنٍ يُكافَأ فيه “الجاهز” ويُقصى “الناجز”، يُصبح الفنّ مهدَّدًا بالتسطّح.

وفي ظلّ غياب العدالة عن توزيع الأدوار، تنكسر القاعدة الأولى التي من أجلها وُجد التمثيل: أن يكون الإنسان في أقصى حالاته صدقًا.

لهذا، فإن العودة إلى الجدارة ليست ترفًا، بل ضرورة.

وإعادة الاعتبار للممثل الحقيقي ليست مجاملة، بل إنقاذ.

من هنا، لا بدّ أن نعيد صياغة السؤال من جديد:

لماذا يُقصى الممثل؟

لأنه رفض التنازل؟

لأنه صادق؟

لأنه أصرّ أن يبقى فنّانًا لا مجرّد موظّف دور؟

أم لأننا – بكل بساطة – صرنا نكافئ الغياب ونقصي الحضور؟

الزمن وحده يردّ، لكنه حين يرد، يكون قد تأخر كثيرًا.

أما الفن، فلا يغفر بسهولة… حين يُخون أولاده.

بقلم شربل الغاوي.

Read Entire Article