ARTICLE AD BOX
رحل صباح اليوم الثلاثاء الفنان المصري عصمت داوستاشي (1943 – 2025)، تاركاً وراءه إرثاً فنياً متنوعاً يمزج بين التشكيل والتأمل الصوفي، وبين السخرية المريرة والمعالجات الجمالية، وعُرف براهب الإسكندرية وعميد فنانيها، جمع بين التمرد والعزلة، وبين الحنين إلى الماضي ورفضٍ لواقع معاصر مليءٍ بالتناقضات.
في بداياته، عُرف داوستاشي باسم عصمت عبد الحليم، لكنه قرر عام 1971 تغيير اسمه إلى عصمت داوستاشي، مستنداً إلى اسم عائلته، معلناً بذلك تحولاً جذرياً في مسيرته الفنية. لم تكن هذه الخطوة مجرد تغييرٍ للاسم، بل كانت إعلاناً عن ميلاد فنان جديد يحمل رؤيةً مختلفة للفن والحياة. وبدأ مسيرته الفنية بعمل تشكيلات تجريدية، مستفيداً من خبرته في التصوير الفوتوغرافي وتقنيات الكولاج (القص واللصق)، قبل أن ينتقل إلى الرسم بأسلوبٍ جديد يميل إلى السريالية، وربما إلى الدادائية أيضاً.
كانت لوحاته مشحونة بالرموز والعناصر، وبألوان قوية تتخذ أشكال تلافيف وأربطة، ثم ما لبث أن تحول إلى نوع من التصوف الفني، لكنه بقي فناناً كثير التحول والتغيّر، يجمع بين التقنيات المختلفة ويوظفها في أعماله التي كانت دوماً ناقدة للواقع الاجتماعي والسياسي.
كانت لوحاته مشحونة بالرموز والعناصر، وبألوان قوية تتخذ أشكال تلافيف وأربطة
تميز داوستاشي بروح التمرد منذ بداياته، إذ رفض الاستمرار في مرسم الفنان السكندري سيف وانلي، وهو أحد أبرز رواد الفن في الإسكندرية، لأنه شعر بأن سيطرة ذلك الفنان على تلاميذه تحولهم إلى نسخ مكررة منه. أراد الراحل أن يكون صوتاً خاصاً ومختلفاً. هذا التمرد استمر معه حتى بعد التحاقه بكلية الفنون الجميلة، حيث كان يحطم ويمزق أعماله بعد إنهائها وتقييمها من قبل الأساتذة، لأنها في نظره لم تكن نابعة من داخله، بل كانت تؤدى بتكليف، وليست إفرازاً حراً لقريحته. في وقت لاحق، اعترف داوستاشي بأنه ربما كان مخطئاً في بعض مواقفه تلك، لكنها تبقى شهادة على رفضه للتقليد والتبعية.
إحدى أكثر المحطات تأثيراً في تجربة داوستاشي الفنية كانت "المستنير دادا"، وهو كيان فني صوفي ابتكره الفنان في عام 1977. شكّل المستنير دادا علامة فارقة وثيمة جوهرية تحمل في طياتها ملامح الفنان وميوله الروحية والفكرية. ارتبط هذا المفهوم ارتباطاً وثيقاً بجذور الفنان التي تعود إلى جزيرة كريت، حيث يشير في سيرته الذاتية إلى صلة قرابة تجمع عائلته بإحدى الطوائف الصوفية التي آثرت العزلة والانزواء بعيداً عن صخب المدن.
أولئك المتصوفة الذين تأملهم داوستاشي في شبابه، ظل يتساءل عن حالهم إن عادوا يوماً إلى الناس: هل يمكنهم التكيّف؟ وكيف سيكون شكل حضورهم؟ من هذه الأسئلة وُلِدت فكرة "المستنير دادا" لتتجسد في لوحات تنبض بالرمز والأسطورة، يطلّ من خلالها هذا الكيان مرتدياً البياض، ومحاطاً بهالة من الغموض والتجلي. أما كلمة "دادا"، فهي تعني "المعلّم" في اللغة السواحلية، ويمكن أيضاً تأويلها ضمن سياق يتقاطع مع حركة "الدادائية" التي نشأت كصرخة فنية احتجاجية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، اعتراضاً على عبثية الواقع ووحشيته. وهو ما يتقاطع بدوره مع فلسفة داوستاشي الفنية، التي لجأت إلى الخيال والتحرر وسيلةً للهروب من الواقع الصادم.
في عام 1968، انتقل داوستاشي إلى القاهرة للعمل بالتلفزيون المصري، حاملاً أحلاماً كبيرة بالعمل في السينما، التي رأى فيها "الوعاء الذي يمكنه من خلاله أن يجمع شتات اهتماماته المتشعبة في الرسم والتصوير والكتابة بأشكالها، لكن تجربة القاهرة لم تدم سوى ستة أشهر، عاد بعدها إلى مدينته الحبيبة. في تلك الفترة، ظهرت المآذن في رسوماته، وبدأ في تكثيف العناصر الفنية، مستخدماً تقنيات القص واللصق لأول مرة. ومع ذلك، لم يتحمل داوستاشي القاهرة، كما قال: "لم أتحمل القاهرة، ولا أتحملها حتى الآن، لكنني أزورها من حين لآخر فهي مصدر إلهام رائع".
وطوال حياته ابتكر مجموعة من العلامات الرمزية التي تكررت في أعماله، أبرزها "الكف" و"السهم". قدم الكف لأول مرة في عام 1973 في سلسلة من اللوحات المرسومة بالأحبار، ثم أعاد صياغة بعضها بالألوان الزيتية. الكفّ لدى داوستاشي هو رمز ثنائي يحمل معاني القوة والعطاء والحنو والرحمة، ولكنه أيضاً يحمل إشارات إلى التضرع والاختلاف بين البشر. أما السهم، فقد رسمه في تشكيلات زخرفية متنوعة، حاملاً دلالات القتل والإرشاد، ومستوحى من الميثولوجيا الرومانية، حيث كان السهم أداة كيوبيد لإصابة القلوب بالحب.
