رد علمي على الدراسة الصادرة من جامعة هارفارد بخصوص أصول قرطاجة

4 hours ago 3
ARTICLE AD BOX

نشرت مجلة علمية أمريكية تدعى "نايتشر" دراسة تاريخ 23/04/2025 ساهم في إعدادها فريق علمي من جامعة هارفارد ومعهد ماكس بلانك الألماني، كما وتم نشرها أيضاً على موقع النهار اللبناني تاريخ 12/05/2025 الساعة 13:00. تزعم الدراسة للأسف أن قرطاجة والقرطاجيين (814) ق م لا ينتمون لفينيقيا والفينيقيين وذلك بناء على تحليل (الحمض النووي) المستخرج من رفات بشرية تعود إلى القرن الثاني عشر ق م، في كل من: قرطاج، صقلية، سردينيا، وجنوب إسبانيا. وقد خلُصت الدراسة إلى أن البصمة الجينية لا تطابق مع سكان قرطاجة، مقابل هيمنة أصول محلية من شمال أفريقيا، وكانت النتيجة: أن قرطاج هي حضارة محلية وبالتالي ليست امتداداً لفينيقية. واللافت إن هذه الدراسة قد استغرقت من الوقت ثمانية سنوات حسب المصدر نفسه.

بالمقابل جئنا بهذا الرد عبر هذه الورقة العلمية، لنبين حدود التحليل الجيني في فهم قيمة الهوية الحضارية، مستندة على قرائن تاريخية، واركولوجية، ولغوية، ودينية، واقتصادية. للتأكيد بإن قرطاج فينيقية المنشأ والهوية، وإن دراسة امتدت نحو ثمانية سنوات لا تتجاوز قراءة بيولوجية ستسقط حتماً أمام الدلائل الأثرية والمصادر التاريخية.

 

أولاً: حدود التحليل الجيني

من المسلمات العلمية اليوم، أن الحمض النووي وحده كمصدر لتحديد الانتماء الإثني والحضاري يُعد انحرافاً علمياً للمنهج العلمي التاريخي. إذاً الهويات الثقافية لا يمكن اختصارها في فحص الحمض النووي، لكن ركيزتها العلمية الأساسية مجموعة من العناصر المادية والمعنوية منها: الدين، الأخلاق، اللغة، النظام السياسي، القوانين، التاريخ ألخ. من هنا يمكن أن نعتبر أن الفحص الخاص بالحمض النووي يمكن أن يكشف تفاعلاً بيولوجياً معيناً، لكنه قطعاً سيفشل في تفسير الظواهر المادية والمعنوية في بناء الحضارات.

 

وقد نجح العالم الاجتماعي ببيار بورديو (1930-2002) حين اعتبر أن "الهوية هي ليست في الجسد، بل في المعنى" مؤكداً أن الرموز ليست مجرد أشكال، بل أنساقٌ خفية تحكم الفكر في تحديد الهوية. بمعنى آخر إن القبول وحسب دراستكم بأن قرطاج ليست فينيقية يساوي بالضبط اعتبار أن الولايات المتحدة ليست إنكليزية الأصل لآن سكانها من خلفيات آسيوية وأفريقية ولاتينية مختلطة.

 

 ثانياً: قرطاج والمصادر الكلاسيكية

من الواضح أن المؤرخون اليونانيين والرومانيين قد أجمعوا جميعاً بأن قرطاج هي فينيقية ليس هذا فحسب، بل تم تحديد الجذور لها وهي مدينة صور تحديداً. وعليه أن العودة إلى تلك المصادر مسألة مهمة لأنها عاصرت تلك الحضارة تاريخياً وجغرافياً، انطلاقا من هنا سوف نعتمد على أربعة من كبار المؤرخين الكلاسيكيين وهم:

 

أ – جاستين

من خلال كتابه الذي هو تحت عنوان: خلاصة التاريخ الفيلبي يخبرنا جاستين وهو الذي عاش خلال القرن الثاني بعد الميلاد أن أميرة فينيقية أسمها أليسار، هربت مع أخيها بعد اضطرابات داخلية، وأن أليسار قامت ببناء قرطاج خلال القرن التاسع قبل الميلاد، والجدير ذكره أن هذه القصة ليست من وحي الخيال، بل هي مصدراً تاريخياً أستُند عليه معظم المؤرخين الكلاسيكيين في دراستهم.

 

قرطاجة. (وكالات)

 

 ب – تيتوس ليفيوس

من خلال كتابه منذ تأسيس المدينة، يستخدم ليفيوس (59 ق م – 17 م) كلمة "الفينيقيون القرطاجيون" بشكل دائم، كما ويصف القائد هنيبعل بالقائد الفينيقي، ما يعكس فهم الرومان لهوية قرطاج وأنها فعلا امتداداً لفينيقية.

 

ج – سترابو و هيرودوتس

في هذا السياق، يؤكد الجغرافي سترابو (63 ق م – 21 م) من خلال كتابة جغرافية سترابو إلى أن الفينيقيين أسسوا مستعمرات شملت: أوتيكا وقرطاج.

أما المؤرخ وأب التاريخ هيرودوتس (484 ق م – 425 ق م) من خلال كتابه التواريخ فذكر أن الفينيقيين كانوا أول من ركبوا البحر وأقاموا المستعمرات وهذا ما يدل على وجود امتداد حضاري واحد.

 

فعندما تبني دراسة جينية تستهلك من الوقت ثمانية سنوات، لا يمكن تجاهل تلك المصادر الأساسية، فهؤلاء المؤرخين كانوا دائماً يعتبرون أن قرطاج جزء من صور، وصور هي قلب فينيقية.

 

ثالثاً: الدين، اللغة، والكتابة.

تزعم الدراسة أن قرطاج هي "حضارة محلية" وإذا كانت الجينات تلك تميل إلى التمازج، فأن الطقوس، واللغة، والكتابة هي من أكثر الرموز الحضارية والتي لا يمكن بأن تتغير.

 

أ – الدين: الجدير ذكره أن الآلهة الأساسية التي كانت في قرطاج هم: بعل، حمّون، تانيت، وملقرت، وجميعها قطعاً كنعانية فينيقية، كانت قد عُبدت في كل من صور وصيدا، وقد عثر الآثارين في قرطاج على معبد كان يقدم فيه القرابين البشرية للإله بعل وفق الطقوس التي كانت سائدة في المشرق أي فينيقية.

 

ب – اللغة والكتابة: لا يختلف اثنان أن القرطاجيون اعتمدوا على الأبجدية الفينيقية، والتي اعتبرت أول أبجدية صوتية في التاريخ، وقد وُجدت مئات من النقوش البونية في قرطاج تؤكد استمرار اللغة الفينيقية بعد الانفصال الجغرافي عن مدينة صور. 

 

كما ويؤكد موسكاتي (1922-1997) التالي" لا يمكن تمييز قرطاج لغوياً عن فينيقيا حتى القرن الخامس قبل الميلاد".

 

ج – النظام السياسي: تشير أغلب المصادر أن قرطاج كانت قد تبنت نظام المجالس التي كانت حاكمة في فينيقية وبالضبط كما كان الوضع السياسي الذي كان قائماً في مدينة صور.

رابعاً: القائد هنيبعل

الاسم يكفي، بحيث يشكل اسم هنيبعل وثيقة تاريخية، فهل لهذا الاسم جيناته الخاصة بالحضارة المحلية!!! أن انتماء هذا القائد وتربيته على تقاليد مدينة صور وعبادته لبعل، تؤكدان امتداد قرطاج للحضارة الكنعانية الفينيقية، أن أسم هنيبعل هو تركيب لغوي ديني أي هبة من بعل أو فضل الإله بعل وهو على شاكلة تركيب إيثوبعل، عبدبعل، متنبعل الخ فهل للقيمين على هذه الدراسة والتي استغرقت ثمانية سنوات أن تفسر أسماء مثل هملقرت، بوميلكار أو ماجّو؟؟!!

 

غير أن ليفيوس أو ليفي الروماني، كان قد تناول هنيبعل ويطلق عليه لقب "الفينيقي" علماً أن في كل المعارك البونيقية، كان لا يُفرق الرومان بين القرطاجي والفينيقي.

 

بناء عليه، يكون هنيبعل أبن الحضارة الفينيقية ذات الطابع المشرقي الخالص.

 

خامساً: قرطاج امتداد بحري لفينيقية.

لقد نجح الفينيقيون بتأسيس مستعمرات من شرق المتوسط وصولا إلى غربه، كما وكانت قرطاج المركز الأساسي بين مدينة صور ومدينة قاديس (في اسبانيا)، انطلاقاً من هنا، لا يمكن للدراسة أن تختزل قرطاج عبر فحص الحمض النووي بأنها افريقية المنشأ، بالمقابل كانت قرطاجة تشكل الرأس الحربي في الشبكات التجارية المعقدة التي عرفها التاريخ القديم.

 

كما وتؤكد المؤرخة مارية انجيني أوبط من خلال دراستها أن الفينيقيين أنشأوا نظاماً تجارياً بحرياً استراتيجي، وأن قرطاج شكلت المحور الرئيسي والمركز الاداري لهذا النظام خاصة بعد تراجع المدن الأم في منطقة المشرق، وقد نجحت قرطاج في إدارة التجارة البحرية خاصة على صعيد الصباغ الأرجواني، القصدير، الفضة، والعاج وصولا إلى بريطانيا وإفريقيا الغربية. كل ذلك يثبت أن قرطاج مهما اختلطت وتزاوجت تبقى العقلية المسيطرة هي الفينيقية حيث تحدثت بلغتها وحروفها، ومارست طقوسها الدينية حتى وأبحرت في سفنها.

 

سادساً: الخاتمة

أن التاريخ الحقيقي يا ساده ليس مجرد تحليل جيني، بل هو إعادة بناء لذاكرة الشعوب، وتحليل لعلم الآثار، وفهم اللغة، واحترام الاساطير. أن التاريخ الحقيقي يجب أن يفهم من خلال ما أنتجته الحضارات من عناصر معنوية ومادية.

 

وأن دراستكم هذه التي استندت على الفحص الحامض النووي، إنما يشكل انحرافاً عن المنهج التاريخي، حيث جعله معيار واحداً للهوية هو خطأ قاتل. فبتجاهلكم الأدلة المادية منها والمعنوية تحاولون تمزيق العلاقة العضوية ما بين صور الفينيقية وقرطاج.

 

وعليه نكون وبناء على هذا الرد العلمي قد أثبتنا التالي:

- أن تأسيس مدينة قرطاجة كان على يد الفينيقيين.

- عبادة نفس الآلهة الكنعانية واتبعت نفس الطقوس.

- استعمال الابجدية الفينيقية والتكلم بلسانها.

- انجبت قادة عسكريين كبار يحملون أسماء كنعانية فينيقية هنبعل نموذج.

- لعبت دوراً كبيراً في التجارة البحرية كما لعبته وأدارته فينيقية من قبل.

من هنا نؤكد أن الهوية القرطاجية هي حقيقة علمية، ثقافية، وتاريخية، وجغرافية راسخة في الدلائل والبراهين.

أيها السادة، عندما تتحول أدوات التحليل الجيني إلى سلاح أيدولوجي لإعادة كتابة التاريخ فهذا يعني تدميراً للهوية، كما ويعيد خلق سرديات استعمارية هدفها تدمير الحضارة المشرقية فقط.

في النهاية ندائي للباحثين والمؤرخين خاصة المشرقيين، لنقف سوياً كحماة للذاكرة وللتاريخ الحقيقي في وجه إنتاج سرديات استعمارية مدمرة، فلا يحق لهؤلاء انكار آلاف السنين من الذاكرة فنحن أصلا من صنع ابجديتهم.

 

Read Entire Article