ARTICLE AD BOX
سلط بدء وزارة مالية الكويت في إعادة هيكلة رسوم عدد من الخدمات الحكومية الضوء على تأثيره المعيشي على عموم المواطنين والمقيمين، والاقتصادي على مجمل إيرادات الدولة، في ظل مناخ دولي عام يدعم سياسات "الإصلاح المالي" وضبط الإنفاق الحكومي بالبلد الخليجي.
ويأتي هذا التوجه في إطار قرار حكومي جديد يسمح للوزارات بتحديد رسوم الخدمات العامة لأول مرة منذ 30 عاما، وضمن حزمة إصلاحات مالية تهدف إلى تحسين إدارة الموارد المالية للدولة، وتقليل الاعتماد على الدعم المالي التقليدي الذي يثقل كاهل الميزانية العامة، وفقا لما أورده تقرير نشرته صحيفة "كويت تايمز".
وإزاء ذلك، تبرز مخاوف من التأثير المعيشي السلبي لزيادة الرسوم على الخدمات في الكويت، خاصة إذا لم ترافقها إجراءات تعويضية أو دعم مباشر للفئات الأكثر ضعفا، لا سيما في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة عالميا في ظل حالة التضخم. ولذا، أكد خبيران لـ"العربي الجديد"، أن إعادة هيكلة رسوم الخدمات الحكومية في الكويت تمثل خطوة إصلاحية مهمة نحو تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار المالي، لكنها تحتاج إلى متابعة دقيقة لضمان حماية السكان من الأثر السلبي المحتمل، مع تعزيز الشفافية والثقة في إدارة الموارد العامة.
ويمنح تطبيق القرار الوزارات صلاحية تقدير الرسوم وفقا لمبادئ السوق، مع مراقبة دقيقة لضمان عدم تحميل المواطنين أعباء مالية زائدة، حيث تشمل الرسوم الجديدة خدمات، مثل القروض السكنية، ورخص الزواج، وتوصيلات الكهرباء، وذلك في سياق خطة إصلاحية أوسع، بحسب التقرير ذاته.
وتشمل تلك الخطة فرض ضرائب جديدة على الشركات الأجنبية، وتحديث قوانين الدين العام، وتقليص الدعم على بعض الخدمات، بهدف تنويع مصادر الدخل وتقليل العجز المالي الذي من المتوقع أن يرتفع بنحو 11% في ميزانية 2025-2026، وفق تقرير نشرته مجلة "غلوبال فاينانس".
ويعكس تطبيق كهذا رغبة الكويت في تعزيز الاستدامة المالية وتقوية الاقتصاد الوطني عبر تحسين كفاءة الإنفاق العام، وهو توجه يتماشى مع تجارب دول الخليج الأخرى مثل السعودية والإمارات، التي نجحت في تطبيق إصلاحات مماثلة أدت إلى جذب الاستثمارات وتحسين بيئة الأعمال، بحسب تقدير صندوق النقد الدولي لعام 2024.
وبحسب التقدير ذاته، فإن الكويت تواجه تحديات مالية متزايدة، إذ سجلت عجزا ماليا بنسبة 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2023/ 2024، بعد أن كانت قد حققت فائضا بنسبة 11.7% في السنة السابقة، نتيجة لانخفاض إيرادات النفط وزيادة الإنفاق العام.
وفي هذا الإطار، يشير الخبير الاقتصادي الكويتي محمد رمضان إلى أن التوجه الجديد للحكومة يظهر أن الزيادات المنتظرة في الرسوم لن تشمل قطاعات حيوية مثل الكهرباء والماء، التي تمثل أساسيات الحياة اليومية للسكان، بل ستطاول مجالات أخرى أقل تأثيرا في الحياة اليومية. ويوضح رمضان أن الرسوم الحالية التي تتقاضاها الحكومة الكويتية على مختلف المعاملات لا تزال متدنية جدا، وهي رسوم قديمة لم تشهد تعديلا منذ فترة طويلة، ما جعل قيمتها الحقيقية لا تتناسب مع الواقع الحالي، وعليه فإن وزارة المالية تعمل على إعادة النظر فيها لجعلها أكثر توازنا مع المتطلبات الاقتصادية.
وفي السياق، يشير الخبير الاقتصادي حسام عايش، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن إعادة هيكلة رسوم عدد من الخدمات في الكويت تعد جزءا من عملية أوسع لإصلاح الإنفاق العام، ويوضح الخبير أن الحكومة تحذر منذ فترة من أن عصر النفط بدأ في دخول مرحلة التراجع، خاصة مع ارتفاع مستوى الهدر في استهلاك الموارد، وعدم توافق التعامل مع الخدمات مع العائد منها أو مع الواقع الاقتصادي الجديد، معتبرا أن الإنفاق الحكومي الحالي يحمل درجة عالية من الهدر.
ويلفت إلى أن هذه الزيادة المرتقبة لن تطاول الخدمات الأساسية، بحسب التصريحات الرسمية، ما يعني أن تأثيرها المباشر على المواطنين سيكون محدودا نسبيا، خاصة أنها لا تمس الحاجات الأساسية في الحياة اليومية. وفي الوقت نفسه، يرى أن هذه الرسوم قد تكون ذات فائدة للحكومة، إذ يمكن أن تساهم مجتمعة في تعزيز الإيرادات العامة بشكل طفيف، دون أن ترقى إلى مستوى إحداث تحوّل جوهري في المالية العامة للدولة.
ويوضح عايش أن هذا الهدر تترتب عليه آثار سلبية على مستويات المعيشة والموازنة العامة، وهو ما يدفع الحكومة الكويتية لاعتبار أن إعادة هيكلة هذه الرسوم ضرورة لتطوير الخدمات وتحسين كفاءتها وزيادة فعاليتها، لافتا إلى أن هذه المراجعة لا تشمل فقط الرسوم، بل إعادة النظر أيضا في أوضاع الجنسيات المختلفة للعاملين في الكويت، باعتبار ذلك جزءا من الإصلاح الشامل الذي تستهدفه الحكومة من خلال إعادة تنظيم الإنفاق وتطوير الخدمات.
ورغم أن الحكومة تعلن أن إعادة هيكلة الرسوم لن تطاول الخدمات الأساسية التي تؤثر مباشرة في مستوى المعيشة، مثل الكهرباء والماء والبنزين، إلا أن عايش يؤكد أن هذه الهيكلة ستنعكس بطريقة أو بأخرى على السكان، لأن المؤسسات والشركات التي تتحمل هذه الرسوم الجديدة ستعيد توزيعها على أسعار خدماتها أو منتجاتها، وبالتالي سيشعر المواطنون والمقيمون بتغير في الكلف النهائية التي يدفعونها.
ومع ذلك يقر عايش بأن إعادة النظر في أسعار الخدمات في الكويت أصبحت ضرورة حقيقية، خاصة أن بعض هذه الأسعار لم تشهد أي تعديل منذ عقود، وبعضها منذ استقلال الكويت، وهو ما يجعلها بعيدة عن الكلفة الحقيقية التي تتحملها الجهات الحكومية في تقديمها. ويوضح عايش أن هناك منطقا اقتصاديا يدعم إعادة تسعير هذه الخدمات بما يتناسب مع الكلف الفعلية التي تتحملها الدولة، وهو ما سيساهم في توفير إيرادات بمئات الملايين من الدنانير الكويتية، وهو أمر مهم بالنظر إلى تراجع أسعار النفط وتسجيل عجز متكرر في الموازنة العامة.
إلى جانب ذلك، ترتبط الحاجة لهذا الإصلاح بجهود إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية في الكويت، التي بدأت تظهر بوادرها حسب تقدير عايش، حيث تسعى الحكومة إلى تحسين طريقة تقديم الخدمات، وتطوير أدائها، ورفع جودتها، بحيث لا تقتصر العملية على مجرد رفع الرسوم، بل تصبح الخدمات نفسها أكثر فاعلية وكفاءة.
ويرى عايش أن تطويرا كهذا من شأنه أن يشجع على تحسين الأداء الحكومي، عبر إدخال أنظمة الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي ضمن منظومة التطوير التي تشهدها هذه الخدمات بعد إعادة تنظيمها، وبالتالي فإن هذه الكلف المتزايدة على المستخدمين سترافقها تحسينات في جودة الخدمات ومستوى الأداء، وهو ما يمكن اعتباره توازنا بين الكلفة والجودة، بما يحقق نوعا من العدالة بين ما يدفعه المستخدم وما يستلمه من خدمة.
ويشير عايش، في هذا الصدد، إلى أن المواطنين في الكويت من أقل الفئات في العالم التي تتحمل أعباء الخدمات الحكومية، إذ ما زالت بعض الخدمات تُقدم بما يشبه المجاني، بينما يؤشر التحول الجاري إلى نهاية مرحلة الخدمات المجانية أو شبه المجانية، وهو مؤشر إلى أن المجتمع الكويتي دخل مرحلة جديدة تتطلب إعادة النظر في كيفية التعامل مع الإيرادات المالية التي كانت تعتمد على النفط بشكل كبير، وهو قطاع يواجه تحديات متزايدة.
وتشمل هذه التحديات التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة، وتراجع أسعار النفط، وارتفاع سعر التعادل لبرميل النفط الكويتي، وهو ما يؤدي إلى تسجيل عجوزات متكررة في الموازنة، بحسب عايش، الذي يشدد على أن ترشيد الإنفاق أصبح ضرورة حاسمة. وإزاء ذلك، فإن التسعيرات الجديدة للخدمات تشكل رسالة واضحة بأنه لم يعد ممكنا الاستمرار في التعامل مع الخدمات كما في الماضي، بل يجب أن تبدأ مرحلة جديدة من الانضباط المالي، وأن يعي المواطن الكويتي أن السيولة التي كانت تسمح بالحصول على الخدمات دون تحمل الكلف بدأت في التراجع، حسبما يرى عايش.
غير أن عايش يلفت إلى أن التكيف مع وضع جديد يتطلب التنازل عن بعض أشكال الرفاهية الحالية، لصالح تحقيق استدامة مالية للأجيال القادمة، سواء في ما يتعلق بالثروة النفطية، أو بالإنفاق العام، أو بالخدمات التي تقدم للكويتيين، ويخلص إلى أن رفع رسوم الخدمات خطوة ليست سهلة لكنها ضرورية، وتفتح الطريق أمام تغيير عميق في ثقافة التعامل مع الموارد، وتدفع باتجاه بناء اقتصاد أقل اعتمادا على النفط، وأكثر كفاءة واستدامة.
