ARTICLE AD BOX
ارتُكبت جريمة قتلٍ نكراء داخل مسجد في قرية بجنوب فرنسا، صبيحة يوم الجمعة الماضي، راح ضحيتها أبو بكر، مسلم مالي كان يؤدي صلاته في سكينة، لتكشف عن مستوى غير مسبوق من الكراهية والإرهاب. جريمة تنذر بمدى الانحدار المعرفي الذي آلت إليه العلاقات بين فرنسا والإسلام. ففي حين كانت، قبل عقود قصيرة، منصبّة على النقد المتبادل بين مفكري الحضارتين، كاد الجدل الفكري بينهما يتوقف بعد أن تعطلت لغة الحوار. وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن أسباب هذا التدهور في صور الإساءة ومضامينها، إن كانت استعارة "الانحدار" تصدق على الإساءة ذاتها، وقد بلغت قاع الرداءة.
ولفهم أسباب هذا التردّي، ينبغي العودة إلى ما كتبه المؤرخ التونسي هشام جعيّط في كتابه أوروبا والإسلام (1978)، حيث استعرض موضوعات النقد الأوروبي للإسلام منذ العصور الوسطى وصولًا إلى الفيلسوف الألماني هيجل. وفي سياق مقارن، يمكن التذكير بخطاب البابا الألماني بنديكت السادس عشر في جامعة ريغنسبورغ، حيث ذكر، عن قصد أو استشهاداً، نقداً يتعلق بغياب العقلانية في الإسلام وارتباطه بالسيف، في استمرار لتقليد استشراقي ساد خلال القرن التاسع عشر، ومن أبرز أعلامه الفيلسوف أرنست رينان، الذي ردّ عليه محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.
كان هذا التبادل الفكري يدور ضمن محاور تقبل النقاش والرد والبرهنة. أما اليوم، فنشهد تدهوراً في مستوى الإساءة – إن جاز التعبير – إذ أصبحت تنحصر في أفعال عنف كحرق المصاحف بدل مناقشتها، ونزع الحجاب، فضلًا عن الإساءات اللفظية والجسدية، والإهانات المتكررة كالبصق والضرب والسحل، بل القتل أيضاً. ولا ننسى ما يسميه تودوروف "العنف المؤسساتي" الذي تمارسه الإدارات والهيئات الرسمية في صيغة مقنّعة تتذرع بالقانون وتتخفّى وراء القيم الجمهورية.
جريمة تنذر بانحدار معرفي في العلاقة بين فرنسا والإسلام
ومن المفارقات المؤلمة أن الأكاديمية الفرنسية لم تصدر في السنوات الأخيرة مؤلفات حول ظاهرة الإسلاموفوبيا، رغم استفحالها في المجتمع الفرنسي. فالكتاب الأخير في هذا المجال يعود إلى أكثر من عقد مضى، وربما تشير هذه المفارقة إلى جو من الرقابة الضمنية التي استبطنها الباحثون، في تواطؤ غير معلن مع السلطات، يهدف إلى التعتيم على هذه الآفة وعدم تسليط الضوء عليها.
ومن أحدث ما صدر في الموضوع، عمل جماعي بعنوان عدو عرقي عالمي: المسلمون والعنصرية في القرن الحادي والعشرين (2024)، بإشراف عالم الاجتماع الأميركي سيلود سيهر. وقد حلل المؤلفون فيه كيف تم "عَولَمة" العنصرية ضد المسلمين في مختلف أنحاء العالم الغربي، إلى جانب الهند والصين، وفككوا السمات المشتركة للإسلاموفوبيا التي تنخر هذه المجتمعات، رغم أنها تتخفى خلف إجراءات قانونية كذريعة مكافحة الإرهاب والرقابة الإدارية. وبهذا، يتم تسويغ الإسلاموفوبيا وتوفير ضمانات مؤسساتية لها.
قد نُرجع تصاعد أعمال العنف إلى الكراهية، لكنها تُفسّر أكثر بما سماه أركون "الجهل المقدس"، ذلك الذي يغلف العقول ويعوقها عن التفكير والحوار المتبادل، ويدفع – حين يتوقف – إلى العنف والقتل. كما يُفسَّر أيضاً بثقافة الإثارة التي ازدهرت عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل والبرامج التلفزيونية، والتي رسّخت صورة نمطية سلبية للعربي المسلم الأسود، فاختزلته في كليشيهات مهينة تحجب غنى الحضارة الإسلامية وتحبسه في قوالب مشوهة، مما يغذي مشاعر الكراهية لدى ضعاف العقول ومرضى النفوس.
من النقاش والرد والبرهنة إلى أفعال عنف كحرق المصاحف
إن هذا التدهور ينذر بغياب ثقافة الحوار بين مكونات المجتمع الفرنسي، وانكفاء بعض الفرنسيين على تصوراتهم المرضية عن الإسلام، المبنية فقط على الكراهية والخوف من الاختلاف. كما يكشف عن غياب الثقافة التاريخية، وعلم الأديان المقارن، وعلوم الأنثروبولوجيا والاجتماع الديني، ولو على نحو جزئي، مما يمكن أن يفتح الأذهان على فهم أعمق لثقافة الإسلام وتاريخه.
ومن اللافت أن بعض أجهزة الدولة، كالنّيابة العامة، قد تقع ضحية هذا المخيال المبسّط عن الإسلام، إذ امتنعت النائبة العامة عن تصنيف الجريمة المذكورة عملاً إرهابياً، ولم تُدرجها ضمن أعمال الإسلاموفوبيا، في سلوك بات شبه آلي عندما يكون الضحية مسلماً أو عربياً، وهو ما أثار ضجة حتى في أوساط غير المسلمين. وهنا يحق التساؤل: أليس قتل مؤمن أثناء أدائه للصلاة في مسجده، بأكثر من خمسين طعنة، مع ترديد عبارات مهينة لرموزه ومقدساته، عملاً إرهابياً؟ وإن لم يكن كذلك، فماذا يكون إذن؟
حين نفت النائبة العامة وجود أيديولوجيا تحرّك الجاني، كانت مخطئة، لأن الكراهية – كما بين فرانسوا راستيي وتودوروف – لا تتولد في الفراغ، بل تتشكّل ضمن خطاب، وتتحرك بأدواته وآلياته، حتى تكاد تكون أيديولوجيا قائمة بذاتها، ذات مضامين ومراتب. غير أنها عند بعض الشباب تتلبّس حالات غائمة تختلط فيها الأبعاد النفسية بالعقلية، والمرضية بالاجتماعية. فالإسلاموفوبيا ليست مجرد شعور فردي معزول، بل منظومة فكرية مترابطة تقوم على الرهاب من كل ما يتعلق بالإسلام، بما في ذلك رموزه وعلاماته. وتتحول هذه الديانة، بكل ما تزخر به من ثقافة، إلى مجرد "إمبراطورية" من العلامات السوداء المثيرة للحقد، من دون أن يُفهم سبب كل هذا العداء، إلا إذا أرجعناه إلى ذلك "الجهل المقدس" الذي تغذيه وسائل الإعلام وما يسميه باختين بـ"الخطاب الاجتماعي".
وفي ظل هذا الانحدار المريع، لا يبقى سوى الإهابة بكل الفاعلين في المشهد الثقافي الفرنسي، من عرب وغيرهم، لفتح قنوات الحوار بين المكونات المختلفة، والعمل على إعادة إبراز الوجوه المضيئة للثقافة العربية الإسلامية: الموسيقى، الفنون الجميلة، الخط العربي، السينما، الغناء الروحي والدنيوي، فن الطبخ، الأزياء، الأدب، وسائر التعابير التي قد تتيح لأحزاب اليمين وأتباعها أن يروا في الإسلام شيئاً آخر غير الدم والظلام. على أمل أن يتحول خوفهم إلى فضول، وربما إلى فهم وتعاطف. فمسؤولية المثقفين العرب في أوروبا جسيمة، لكن الشجاعة المطلوبة من الفرنسيين أنفسهم للخروج من كهوف أوهامهم لا تقل جسامة.
وإن كانت جميع هذه الممارسات مستوجبة للإدانة، فإن "بعض الشر أهون من بعض"، ولعل سخرية فلسفية كالسخرية التي وجهها فولتير إلى النبي محمد، رغم قسوتها، دفعت حينها إلى البحث والقراءة والتأمل، بل أسهمت في تعميق الدراسات الاستشراقية وترجمة القرآن والسيرة. أما الاقتصار على العنف، فهو علامة على فقر الفكر وانكفاء الذات.
من هنا، لا تكون مقاومة الإساءة بإساءة مضادة، بل بالاجتهاد في إظهار جماليات التراث العربي الإسلامي، وترسيخه مكوّناً حياً من مكوّنات الثقافة الفرنسية. ومن بين أدوات ذلك، التذكير بأن أكثر من ألف كلمة فرنسية تعود إلى أصول عربية، في إشارة إلى جذور حضارية مشتركة، قد تسهم في تخفيف حدة العنف والتنافر.
* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس
