روائيون جزائريون يتحدون الممنوعات المتزايدة

5 days ago 3
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">بوستر فني عن الراقابة (موقع جامعة كايان الفرنسية)</p>

 في سياق رواج الرقابة على الادب في الجزائر، ترسخ ما يعرف بالمثلث المحرم في الوعي الجمعي، وهو الدين والجنس والسياسة، وحدد هذا المثلث خطوطاً حمراء يحاذر كثير من الكتاب الاقتراب منها.

ومع هذا هناك أقلام عديدة كتبت بجرأة وتمكنت من اختراق هذه التابوات، كما نجد لدى فضيلة الفاروق وربيعة جلطي وأمين الزاوي وسمير قسيمي وغيرهم. لكن هذه الجرأة ليست من دون ثمن، إذ يجد الكاتب نفسه في مواجهة شريحة واسعة من القراء ترفض قراءة نصوص توصف بـ"الخادشة للحياء"، على رغم أن القراءة تجربة فردية. وفي كل دول العالم هناك تصنيفات للكتب بحسب العمر، منها ما هو مخصص لليافعين وما هو مصنف للبالغين.

يذهب بعضهم من القراء إلى المطالبة بـ"أدب نظيف" على غرار مفهوم "السينما النظيفة"، مما يجعل المبدع عرضة لحملات تشهير وإساءة وأحياناً تهديدات تمس حياته الشخصية، خصوصاً حين يخلط المتلقي بين صوت الكاتب وصوت شخصياته المتخيلة.

في هذا التحقيق، تواصلنا مع روائيين وروائية، كانت لهم مساهمات بارزة في الأدب الجزائري، وطرحنا عليهم أسئلة تتعلق بالحرية في الكتابة: "إلى أي مدى يشعر الروائي الجزائري بالتحرر أثناء الكتابة؟ هل تغيرت نظرة القراء إلى بعض التابوات بين الماضي والحاضر؟ هل يفرض المجتمع قيوداً تجعل الكاتب يفكر في التراجع عن كتابة عمل معين أو يمتنع عن نشره؟ وما الحدود التي يضعها المبدع لنفسه، والأهم: ما الثمن الذي يدفعه في مقابل حريته الإبداعية؟".

ربيعة جلطي: الانفتاح الرقمي أسهم في تحريك العقليات الراكدة

تقول الرواية ربيعة جلطي: "إن من حسن الحظ أن قراء الرواية في الجزائر أيضاً، مثل قرائها في بعض بقع العالم، المتعددي اللغات والثقافات، وليسوا ذوي قياس معياري موحد في تعاملهم مع النص ولا يتعاطونه بقياس موحد taille unique، كقمصان وقبعات. بل إن حساسيتهم حيال التابو (الدين والسياسة والجنس) تتفاوت بحسب درجات الوعي، ونتيجة سلسلة من الخبرات القرائية والمرجعيات الثقافية واللغوية. فالحقل القرائي كما الروائي  في الجزائر يتشكل في نسيج مكون من أكثر من لغة: العربية والفرنسية والإنجليزية والأمازيغية والدارجة العربية، مما يؤثر في مستويات توقع القارئ لدلالات النص السردي، وبالتالي يتراوح بين الرفض والقبول. لا شك، في أن التشنج الذي كان واضحاً حول تناول الرواية للتابوات من مواضيع الدين والجنس والسياسة والهوية، خفت نسبياً في السنوات الأخيرة، نتيجة الانفتاح الرقمي الذي أسهم في تحريك برك العقليات الراكدة من الداخل، وشكل فضاءات للتواصل والتثاقف، متحررة إلى حد ما من عيون الرقابة المركزية. ولأن كل شيء حامل لضده، فإن الرقابة الجماهيرية عبر الوسائط الجديدة تعيد التشنج ذاك، فلا يفتأ يطفو من حين لآخر، حاملاً للتهديد والوعيد والشتم والتنمر".

 وتضيف: "خلال مساري الأدبي الطويل آمنت أن الحرية هي قلب الكتابة وشرطها الأساس، ولا توجد مواضيع غير قابلة للكتابة. وتناول التابو نفسه يتحرر من عنف القارئ الرقيب ومن زجر مؤسسة الرقابة، من خلال ذكاء توظيفه الفني الذي يفتح على تعدد التأويل. قراء رواياتي ودارسوها يؤكدون كل مرة أنني كنت دوماً حرة في أخذ حقي للقص على الناس ما لا يريدون سماعه، على حد تعبير جورج أورويل.  فتناولت مواضيع جد حساسة كالتدين الزائف والأنظمة الشمولية والجنس والقهر الاجتماعي والشوفينيات الضيقة، من "الذروة" إلى "نادي الصنوبر" و"عرش معشق" و"عازب حي المرجان" و"حنين بالنعناع" و"قلب الملاك الآلي" و"جلجامش والراقصة" و"ترتيب العدم" و"خلايا ناعمة" وغيرها.  لا أؤمن بالمحرمات على الكتابة أو فيها، هناك فقط طرق سطحية وفجة في طريقة تناولها، إذ إن بعض المفردات سم، إذا ما أسيء استخدامها كما قال نيتشه رمز التمرد، وبلسم كلما أحسنا الاستثمار فيها شعرياً. وعلى رغم طبيعتي في عدم التسرع في النشر، إلا أنني لم يحدث أن ترددت ولو لحظة في كتابة ونشر عمل ما، عندما أشعر بأنه مكتمل لشروطه الجمالية والفلسفية. حرية الإبداع ليست امتيازاً بل هي شرط الكتابة وروحها، وهي لا تضمن الشهرة، لكنها تمنح الكاتبة والكاتب كرامة الحبر، وشرعية الكلمة كي تكون شاهداً لا تابعاً. أما عن ثمن الحرية وجرأة الخروج عن الخطاب الرسمي المؤطر فهو غال، ولكن الحفر في المناطق المحرمة المحظورة أمر حتمي لكتابة نقدية كاشفة وصادقة، كتابة تبحث عن تعرية البنيات الاجتماعية والنفسية والسياسية المختلة في المجتمع. الكاتب المغضوب عليه لا يكون دائماً منبوذاً جماهيرياً، بل غالباً ما يتعرض للإقصاء من طرف النخب أو من السلطة عبر التجاهل والتهميش، لأنه صوت نبوءة أدبية لما سيصبح مقبولاً لاحقاً، ومرآة تعكس أعطاب المجتمع وهشاشة التعنتر والتعنت الفردي والمؤسساتي.

سعيد خطيبي: صارت الكتابة بالعربية في حد ذاتها تابو

 اما الروائي سعيد خطيبي فيقول: "في الجزائر، صارت الكتابة بالعربية في حد ذاتها تابو. تكاد هذه اللغة الجميلة أن تفرغ من حمولتها الكونية والإنسانية، وأن تعود لخانة المقدس فحسب. والأمر يرجع إلى التغيرات التي أصابت مناهج تلقين الأدب في المدارس، إذ يجري تلقين الأدب من ناحية الأسلوب والشكل، وكأنه مادة صلبة، مع إفراغه من الحمولة المعنوية والإنسانية، من القيم والأبعاد النفسية التي ينطوي عليها النص. لا أظن أن النظرة تغيرت، لأن العوامل نفسها تؤدي إلى النتائج نفسها. لا يزال الإنسان في الجزائر يعيش، في كثير من الأحيان، في فراغ، نظراً إلى ظروفه الاجتماعية، مما يحتم عليه الالتجاء إلى الدين، كنوع من الوقاية من الوضع الذي يحيا فيه، وهذه الحال تجعله يفسر العالم وفق نظرة عقائدية، وهي نظرة لم ينج منها الأدب، الذي يتعرض إلى محاكمات باسم الأخلاق لا بالنظر إلى قيمته الفنية والجمالية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ويرى: "في السنين الأخيرة، نلاحظ صعوداً للرقابة الذاتية في الأدب الجزائري، تفادياً لردود الفعل غير المحسوبة من طرف المتلقي. ولا أدعي بطولة أنني أفضل حالاً من زملائي، فأنا كذلك لا أود أن أقضي سنوات في كتابة رواية ينتهي أمرها بالمنع. مع ذلك لا أضع حدوداً في الكتابة، لأنني ببساطة لست مشغولاً بقضايا من شأنها الاستفزاز أو إثارة خصومات. أمارس الأدب بوصفه مغامرة جمالية، أمارس حقي في الخطأ كذلك. لا يهمني الاصطدام مع أحد في الآراء، بل يهمني نقاش هادئ مع القارئ وتوسيع دائرة التخيل، ولكل قارئ الحق في تأويل نص بما يختلف عن قارئ آخر. لم يحدث أن امتنعت عن نشر عمل كتبته بسبب الخوف من التلقي، فالأدب ليست وظيفته النصح أو الإرشاد أو التخوف من الآخر، بل وظيفته إتاحة فسحة من التخيل، من متعة القراءة، من تشارك في جمال اللغة وفي حرفة الحكي. الأدب هو مساحة من أجل تخيل عالم أقل ضرراً من العالم الذي نحيا فيه. نحن نعيش في أزمنة أكثر خطورة مما سبق، فمحاكمات الكتب صارت تجري ليلاً نهاراً. وانتقلت جيوش الناقمين على السوشيال ميديا من الإساءة إلى كتاب إلى الإساءة إلى كاتب (ة)، ونتذكر الحملة المسيئة التي تعرضت لها رواية "هوارية" العام الماضي. في حدود علمي، لا يوجد كاتب واحد في الجزائر لم يجر اتهامه بالعميل أو الخائن، لمجرد أنه أصدر رواية لم توافق أهواء بعضهم، وصار الناس يطلقون الأحكام من غير نقاش. هذه الحالة جعلتني أزهد في السوشيال ميديا، إذ لم يعد إبداء الرأي متاحاً. كما نعلم، بعدما انسحبت أحزاب سياسية عن القيام بدورها، مثلما انسحبت مؤسسات أهلية كذلك، باتت الساحة خالية، وصار النقاش يأتي من الأدب وحده، وهناك من يريد من الكاتب أن يصير ناطقاً باسمه، وإن لم يفعل فسيسمع ما لا يرضيه من نعوت وإساءة".

أحمد طيباوي: هل بقي من تابوات أو محرمات لا يمكن الخوض فيها؟

 الروائي أحمد طيباوي يقول: "في زمن مضى كانت الحكاية، في أشكالها المختلفة، هي ما يشكل وعي الناس وتصوراتهم حول المواضيع المختلفة، بما فيها تلك التي يكون من المحرم أو الممنوع الخوض فيها، أو يراد تثبيتها في العقل والوجدان الجمعيين بصورة معينة لا تقبل أية زحزحة. وإذا أراد فرد أو مجموعة أن يؤثروا في ذلك الوعي، أو أن يحاولوا إثراءه أو غير ذلك بحسب الدرجة المرغوبة، فإن سردية مختلفة هي السبيل إلى ذلك. سردية تقتحم ما يتهيبه الناس، يقدسونه، يلعنونه، برؤية مختلفة عما سبق وتعودوا عليه. إن الممنوع مغر ومخيف، كاتب شجاع ومختلف أو شيطان، سيصفونه، ذلك الذي يجري قلمه في فلك الممنوع السياسي والاجتماعي والثقافي والديني، يريد أن يحطم أوثاناً ويكسر سياج الخوف من اقتحام المناطق الملغمة، إيماناً منه بفكرة أو طلباً لسمعة".

ويضيف: "لكن ومع الفيض الإعلامي الذي نعيشه، حيث لدينا معلومات وأفكار أكثر بكثير مما نحتاج إليه تقريباً، هل بقي من تابوات أو محرمات لا يمكن الخوض فيها؟ أليس كل ما قيل قد قيل مثله أو ما يشبهه في زمن ما بقلم كاتب أو كاتبة؟ ما زال هناك بطبيعة الحال ما يصعب الكتابة عنه، بيد أن في تقديري تلك الصعوبة مردها، زيادة على قيود المجتمع والنسق الثقافي، قصور في أدوات الروائي. الرواية فن قبل كل شيء، وليست حزمة حقائق مزعومة وتصورات مغايرة للمألوف في اعتقاد الروائي، يريد أن يصدم بها القراء، ثم إذا لم يتقبلوا اتهمهم بالانغلاق والتخشب. هذه حيلة قديمة وغبية، إن التحدي الحقيقي والمستمر بالنسبة إلي كروائي يتعلق أساساً بسؤال كيف أقول، وليس ماذا أقول. الـ"كيف" هو ما يصنع الفارق بين روائي مبدع يجدد أدواته وأساليب التعبير وبث القيم الإنسانية المشتركة، الـ"كيف" هي مهمة الروائي الحقيقي الواعي بهذه المهنة النبيلة، وبفضلها يمكنه أن يكسر الحواجز ويتعدى الحدود. فيما يخصني كتبت عن العزلة والاغتراب، عن الثورة التحريرية، عن المتاجرين بالدين وبالوطنية، عن المثقف الانهزامي والمستلب والوصولي، عن محنة المرأة المثقفة. وما زالت أعتقد أن التحدي هو كيف أكتب كي أرضي نفسي ويجد القارئ ما يهمه، أقصد ما يقنعه ويمتعه".

subtitle: 
نحو كسر خطوط التابوات التي تفرضها تقاليد المجمتع والسلطة
publication date: 
الخميس, مايو 15, 2025 - 13:15
Read Entire Article