"سلام ميّت" في غرفة مغلقة... الأجوبة المفقودة

1 day ago 4
ARTICLE AD BOX

لم يعبأ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بردّات الفعل "الغاضبة" من الدول العربية، حتى التي لديها اتفاقات سلام مع إسرائيل، حين منع الوفد الوزاري العربي من دخول الضفة الغربية للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، وقد اكتفى وزراء الخارجية بعقد لقاء عبر الفيديو معه، معبّرين عن غضبهم من موقف نتنياهو، ومحمّلينه مسؤولية انسداد أفق السلام والتصعيد في المنطقة.
رسالة نتنياهو المباشرة واضحة لا تقبل التأويل، فالسلطة الفلسطينية بالنسبة إليه انتهت عملياً، فهو يرى أنّ اتفاقية أوسلو (1993) كانت خطأً تاريخياً، والسلطة نفسها غير مرغوبة لديه، والمشروع الوحيد الذي يؤمن به ضمّ أجزاء كبيرة من الضفة الغربية والسيطرة على القدس، والتخلّص في كل مرّة من أكبر عدد من الفلسطينيين. أمّا رسالته غير المباشرة (لكن المفهومة) أنّ هنالك صورة جديدة لإسرائيل اليوم في المنطقة، هي إسرائيل التي لا تريد تعاطفاً من أحد، بل إسرائيل القوية التي يخاف منها المحيط العربي.
تشكّلت معادلات جديدة في المنطقة لا تنفع معها الصياغات والديناميكيات القديمة، ربّما هذه هي الشيفرة المرسلة من إسرائيل إلى الوفد الوزاري العربي. انتهى محور الممانعة، خسر حزب الله معظم قوته، إيران في حالة من القلق والترقّب وتسعى إلى اتفاق نووي مع الأميركيين، وسورية الجديدة في مرحلة من ترميم الذات والقلق من أجندة نتنياهو في تقسيمها واستهدافها، وغزّة تحت وطأة أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، وعاجلاً أم آجلاً ستنتهي حركة حماس عسكرياً في غزّة... هكذا يفكّر اليمين الإسرائيلي (على الأقلّ)، وبالتالي هي فرصة ذهبية لتغيير قواعد اللعبة كاملةً في المنطقة. لماذا سيتراجع؟ وما هي الكلفة التي سيدفعها إن يفعل؟

يعرف الجميع أن "حل الدولتَين" هو بمثابة ميّت، لكن لا أحد يريد الاعتراف بذلك، لأنّه يعني مواجهة أسئلة كبيرة وخطيرة، على صعيد مصير الفلسطينيين والوضع الإقليمي

كان هذا سؤال كاتب هذه السطور لصديقه الباحث الأميركي، الذي يرى أنّ نتنياهو يرتكب خطأً استراتيجياً فادحاً في التمادي بهذه السياسات والمواقف، لأنّ ذلك لن يجلب الأمن لإسرائيل على المدى الطويل، وفقاً له. في المقابل، يرى الباحث التونسي، المتخصّص في الشؤون الإسرائيلية واليهودية فوزي البدوي (في محاضرته في معهد السياسة والمجتمع في عمّان أخيراً عن الأبعاد التوراتية للسياسات الإسرائيلية بعد "7 أكتوبر")، أنّ نتنياهو أكثر من فهم هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأعاد صياغته، ليعيد صياغة صورة إسرائيل وصورته شخصياً، بتعريف ما حدث بأنّه "خطر وجودي"، لينطلق بعدها في تحقيق "الحلم" بالتوسّع والهيمنة، والانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، والعمل الدؤوب لطرد الفلسطينيين من أرضهم، واستكمال مشروع إقامة دولة إسرائيلية على أرض فلسطين كافّة.
للأمانة، يحاول وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي عمل المستحيل في المواجهة الدبلوماسية مع إسرائيل، وهو يستثمر كلّ ما يقوم به نتنياهو لتأليب أوروبا والعالم ضدّه، وهنالك موقف عربي جديد، وأفضل ممّا كانت عليه الحال بعد السابع من أكتوبر (2023)، وحرب الإبادة الإسرائيلية، وقد تأجّل التطبيع السعودي الإسرائيلي بسبب ذلك، وخسرت إسرائيل فرصةً تاريخيةً للاندماج في المنطقة، على الأقلّ رسمياً، وربّما تشير التقارير إلى أنّ هنالك خلافات في وجهات النظر بين الرئيس الأميركي ترامب ونتنياهو حول السياسات الشرق الأوسطية. غالباً ذلك كلّه صحيح، لكن إلى أي مدى سيغيّر من الواقع ومن أجندة نتنياهو ومن سلوكه العدواني وسيناريو التهجير والترحيل للفلسطينيين؟
عمل العرب على نزع كلّ حجج إسرائيل، وتليين موقف ترامب مؤقّتاً، فقدّموا خطّةً بديلةً لإعمار غزّة، بل وللمرحلة التالية للحرب، من دون سلطة "حماس"، وضغطوا على الرئيس محمود عبّاس لإصلاح السلطة الفلسطينية، وعُيّن حسين الشيخ نائباً للرئيس. بالرغم من ذلك، لم يتغيّر موقف نتنياهو، ولم يضغط عليه الرئيس ترامب لوقف الحرب، ولم يعد (ترامب) إلى طرح أي مشروع للتسوية السلمية، حتى صفقة القرن (عرضها في المرحلة الأولى من ولايته)، التي تعني التنازل عن جزء كبير من أرض الضفة الغربية وعن القدس وعن حقّ العودة. على ماذا يراهن العرب إذاً في وقف نتنياهو؟... "حل الدولتَين" هو بمثابة ميّت موجود في الغرفة، يعرف الجميع أنّه قد مات، لكن لا أحد يريد الاعتراف بذلك (باستثناء نتنياهو طبعاً)، لماذا؟ لأنّ ذلك يعني مواجهة أسئلة كبيرة وخطيرة، على صعيد مصير الفلسطينيين والوضع الإقليمي: ماذا بعد انتهاء التسوية السلمية؟ ما هو مصير السلطة الفلسطينية؟ ما هي خيارات العرب الاستراتيجية في التعامل مع إسرائيل؟ هل سيتم التراجع إلى الوراء والقبول بإسرائيل بعد طرد الفلسطينيين أو ضمّهم لهذه الدولة أو تلك؟

هنالك صورة جديدة لإسرائيل اليوم في المنطقة، إسرائيل التي لا تريد تعاطفاً من أحد، بل القوية التي يخاف منها محيطها

قدّم العرب حزمةً مغريةً في خطّة إعمار غزّة، للرئيس ترامب وللإسرائيليين، في حال وقف الحرب، والعودة إلى مسار التسوية السلمية وإقامة الدولة الفلسطينية، لكن نتنياهو رفض الصفقة. ما الذي يمكن عمله (في المقابل) لترهيبه وإجباره على التخلّي عن مخطّطه، ليس فقط تجاه غزّة، بل حتى الضفة الغربية والقدس؟ ما هو الثمن الذي سيدفعه نتياهو لرفضه ذلك؟... نعم، موقف العالم الذي يتغيّر، أوروبا التي تنتقد إسرائيل، صورة إسرائيل في العالم التي تهشّمت، تحوّلات الرأي العام الأميركي، التوتر الضمني بين نتنياهو والإدارة الأميركية، خسارة فرصة التطبيع مع السعودية والدول الإسلامية الكبرى، وفقدان العديد من المنافع الاقتصادية الممكنة... ذلك كلّه صحيح، لكن نتنياهو يضعه في كفّة، ويضع استكمال حلم إسرائيل في الأرض في كفّة أخرى، ويرى أنّ هذه الكفّة أفضل له حالاً، ربّما يؤجل مشروع "السلام الإقليمي" الكامل إلى حين ميسرة، وربّما يرى أنّ المطلوب تأجيله قليلاً إلى حين بناء واقع جديد في أرض فلسطين، لأنّ هذه المسألة بمثابة قضية وجودية، تمسّ صلب النظرية الأمنية الإسرائيلية، هي رأس المال والباقي ربح يمكن تحصيله لاحقاً.
هنالك سرّ باتع لنتنياهو واليمين المتطرّف، الذي يهيمن اليوم على إسرائيل، فبالرغم من هذه المواقف الدولية والإقليمية والرأي العام العالمي، ما زالت الإدارة الأميركية الحالية تراقب (وتلاحق) كلّ من ينتقد الحرب في إسرائيل. صديقي الأكاديمي والباحث الأميركي المميّز يحدثني عن قائمة طويلة من الأكاديميين الأميركيين المهدّدين بالفصل والملاحقة القضائية والإدارية بسبب مواقفهم الناقدة إسرائيل، ونسبة كبيرة منهم (للمفارقة) من اليهود. سألته: هل إدارة ترامب تطبّق اليوم مشروع دانيال بايبس (الصهيوني اليميني المؤيّد لإسرائيل) في "مراقبة الحرم الجامعي" (Campus Watch)؟... قال: بات الوضع أسوأ بكثير.

Read Entire Article