سلفادور دالي ونجوم الإعلام السوري الجديد

5 days ago 3
ARTICLE AD BOX

بعد سقوط نظام بشّار الأسد، وجدت السلطات السورية الجديدة نفسها أمام مهمّة عاجلة، تتمثّل في تقديم نقيض لإعلام الأسد، إعلام الرقابة الأمنية الصارمة، واللغة الخشبية، وتغييب الرأي المخالف، صاحب الخطاب التعبوي الذي يرى في المواطن متلقيّاً سلبياً، لا شريكاً في فهم الحدث. بدت المهمّة صعبة، فلا يملك الحُكّام الجدد، لا كفاءةً ولا فلسفةً إعلاميَّتَين. أمّا أيديولوجيتهم، فلا تسمح بمغامرات إعلامية حرّة تحت سقف من المهنية. فضّلت السلطات الجديدة الاعتماد على المؤثّرين ومشاهير السوشيال ميديا، واتضح أن هذا التفضيل ليس إنقاذاً مؤقّتاً، وإنما استراتيجيةً محسوبةً لصناعة الشرعية، في غياب عقد اجتماعي ودستور دائم. فمزعجة هي مطالب الإعلام المهني لمن يريد الحكم باسم الشرعية الثورية، مقارنةً بالسوشيال ميديا، المثالية لبثّ رسائلَ من دون مساءلة، وتقديم وهم إنجاز من دون عناء. ولعلّ ذلك ما يفسّر تعثّر (وتثاقل) انطلاقة إعلام رسمي سوري.
لدينا في سورية نظام يتنفّس عبر الخوارزميات، بإعلام بديل لا يراقب السلطة، يضيق بالنقد ولا يطرح الأسئلة، بل يحرف النقاش عن أهدافه، فكلّما زاد الضجيج قلّ الوضوح، وكلما ارتفعت أرقام المتابعين لمعت الحقيقة. لذلك، حين تجول في الفضاء الافتراضي السوري، وتعرّج على صفحات نجوم الإعلام السوري الجدد، ستجدهم أبطالَ إعلام بلا محتوى، مفرداتهم لامعة، مواقفهم جاهزة، لكن لا أسئلة حقيقية لديهم. يصرخون أكثر، فيُشار إليهم أكثر، فيظنّون أنفسهم قادةً في استعراضات تملأ الفضاء ضجيجاً، وتفرّغه من المعنى، فتختبئ الهشاشة الفكرية خلف عدد المتابعين. يصدّق واحدهم أنه فوق النقد لمجرّد امتلاكه آلاف "اللايكات"، وينسى أن المجد الحقيقي لا يحتاج شهوداً. ذكاؤهم المستفزّ ومنشوراتهم البهلوانية تجعلهم نجوم لعبة إنهاك سياسي مكرّرة: تشتيت الانتباه، إدارة الضجيج، وبثّ الخوف من المجهول. في هذه اللعبة، طبيعيٌّ أن يخسر الإعلام المهني دوره، لأنه لا يصرخ بما يكفي على أنغام "الترند". غرورهم ليس خفيف الظلّ، إذ يؤمن أصحابه بأنهم فوق النقد، وأن من يخالفهم "حاقد"، ويسوّقون أنفسهم "منقذين" للحقيقة، في حين أنهم يشوّهونها في استقطاب درامي يبحث عن "آخر"، في حرب بين الخير والشر. لا تنتج هذه الحروب لا إعلاماً ولا معرفةً ولا تواصلاً، بل ضجيجاً يعزّز شعور هؤلاء النجوم بنرجسيتهم البغيضة. والغرور ليس مجرّد خطيئة فردية، بل مرض بنيوي تُنتجه أنظمة تُقدّس الفردانية. هكذا كان حالنا مع النظام البائد، وأبواقه الإعلامية، وإن يعيد التاريخ نفسه، فمهزلةً، كما قال كارل ماركس.
لعلّك تصادف في واحدة من جولاتك في الفضاء الأزرق (وغيره) مقطعَ فيديو تطرحه أخيراً خوارزميات "فيسبوك" للتداول في نطاق واسع، يرفض فيه سلفادور دالي (1904 - 1989) أن يكون أعظم رسّام في العالم، معلناً في مقابلة متلفزة أنه لم يضف أيّ شيء إلى الفنّ. هو "رسّام سيئ"، كما يقول، بل أذكى من أن يكون رسّاماً جيّداً، فلكي تكون كذلك: "يجب أن تكون غبيّاً قليلاً". ما قاله دالي لم يكن سخريةً ترسم واحداً من عوالمه السريالية، بل وضع إصبعه على جرحٍ قديمٍ، يتجدّد في أزمنة الاستعراض: النرجسية الخالية من الإبداع.
الشهرة السهلة أكبر خدعة، تمنحك شعوراً بالخلود، لكنّها تسرق منك حياتك الحقيقية. أدرك سلفادور دالي أن الغرور ليس أكثر من آلية دفاعية تُدمِّر الإبداع، فأعلن مع سقراط: "كل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئاً"، ورفض العظمة في زمن الشهرة الصعبة، لأن العظمة الحقيقية هي التي تعترف بأنها ليست نهاية الطريق، بل مجرّد محطّة في رحلة لا نهائية من الاكتشاف. في المقابلة، يقول دالي إنه إذا رسم يوماً لوحةً جيّدةً... أو ألّف مقطوعةً موسيقيةً عبقريةً، فسيموت بعد أسبوع. يشعر كما قال بأنه مدين للحياة، لذلك يفضّل العيش طويلاً بـ"لوحات سيّئة"... فليتأمّل النرجسيون.
هل غيُّبت المؤسَّسة الإعلامية في سورية عمداً لمصلحة منظومة تسويق عاجلة يقودها نرجسيون بلوحاتهم "العبقرية"؟... إن شرعيّةً تُشترى بالمتابِعين تسقط مع أول طفرة في الخوارزميّة، وتبقى المؤسّسة الضامن الوحيد لبقاء الدولة.

Read Entire Article