ARTICLE AD BOX
تُبدي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب اهتماماً كبيراً في الآونة الأخيرة بالملف السوري، ويتقاطع ذلك مع اهتمام مماثل من دول حليفة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، تدفع باتجاه ترسيخ الاستقرار في سورية بعد أنْ ظلّ هذا البلد لعقود أحد أكبر مصادر القلق الإقليمي والدولي. وفي خطوة أخرى تعكس الانفتاح الأميركي من بوابة واسعة على دمشق، التقى الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني، أول من أمس السبت، المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية توم باراك، في مدينة إسطنبول، في مؤشر جديد يعكس استعداد الإدارة السورية الجديدة لوضع كل الملفات التي تثير اهتمام وربما مخاوف الأميركيين على طاولات التفاوض.
ملفات حيوية بين سورية وإدارة ترامب
وبحسب بيان من الرئاسة السورية، نُوقشت في الاجتماع الذي جرى على هامش زيارة قام بها الشرع إلى إسطنبول (السبت)، ملفاتٌ "حيوية"، منها قرار رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سورية. وتطرق الاجتماع، وفق البيان، إلى ملفات لا تقلّ أهمية، منها الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الجنوب السوري، وملف الأسلحة الكيميائية، وسُبل دعم الاستثمار الأجنبي في سورية، لا سيّما في قطاعي الطاقة والبنية التحتية، إضافة إلى التعاون الأمني المشترك لمواجهة التحديات الإقليمية، بما في ذلك مكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
وافقت الحكومة السورية على مساعدة الولايات المتحدة في تحديد أماكن المواطنين الأميركيين أو رفاتهم
من جهته، قال باراك في منشورات على منصة إكس، أمس الأحد: "خطوة قوية إلى الأمام. لقد وافقت الحكومة السورية الجديدة على مساعدة الولايات المتحدة في تحديد أماكن المواطنين الأميركيين أو رفاتهم" لإعادتهم إلى بلدهم، وأضاف: "أوضح الرئيس (دونالد) ترامب أن إعادة المواطنين الأميركيين إلى ديارهم أو تكريم رفاتهم بكرامة، هو أولوية قصوى في كل مكان. وستساعدنا الحكومة السورية الجديدة في هذا الالتزام". وعدّد من بين المفقودين أوستن تايس، وماجد كمالماز، وكايلا مولر. وأشاد باراك "بالخطوات الجادّة" التي اتّخذها الشرع في ما يتعلق بالمقاتلين الأجانب والعلاقات مع إسرائيل. ونقلت وكالة فرانس برس عن مصدر سوري مطلع على المحادثات بين الحكومتَين السورية والأميركية بشأن ملف المفقودين، أن هناك 11 اسماً لآخرين على قائمة واشنطن، هم سوريون لديهم جنسيات أميركية، من دون أن يحدِّد أي تفاصيل أخرى.
ويندرج هذا اللقاء في سياق الاهتمام الأميركي الكبير بالملف السوري، الذي تجلّى أكثر ما تجلى في قرار الإدارة الأميركية تعليقَ العقوبات على سورية، وهو ما يؤسِّس لعلاقات استراتيجية بين واشنطن ودمشق التي تبدو منفتحة لوضع كل الملفات التي تثير هواجس الأميركيين على طاولات التفاوض. وجاء لقاء الشرع مع باراك بعد يوم واحد من إصدار وزارة الخزانة الأميركية، يوم الجمعة الماضي، ترخيصاً عاماً يقضي بتخفيف فوري للعقوبات المفروضة على سورية، يشمل الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب وعدداً من الشركات والمؤسّسات الحكومية، في تطبيق لإعلان ترامب قبل أيام رفع العقوبات الأميركية عن سورية في قرار وُصف بـ"التاريخي"، وفتح الباب أمام تعاطٍ أميركي مختلف مع الملف السوري.
وتحكم النظرة الأميركية للملف السوري العديد من الثوابت لعلّ في مقدمتها: محاربة الإرهاب المتمثل في مجموعات وتنظيمات متطرّفة أبرزها تنظيم داعش، والملف الكيميائي، إذ تريد واشنطن الانتهاء من هذا الملف الذي يعد من تركة النظام السابق الثقيلة. وبرز بعد إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، ملف لا يقلّ خطورة بنظر الأميركيين وهو ملف المقاتلين الأجانب في سورية، فواشنطن تريد تحييدهم تماماً عن المؤسسة العسكرية والأمنية السورية لا سيّما عن مراكز القرار. ومن الملفات الماثلة بقوة في السياسة الأميركية إزاء الملف السوري، ملف المفقودين الأميركيين في سورية خلال سنوات الحرب، الذي تتعاطى معه الإدارة السورية بجدية.
ويأتي ملف "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ضمن الاهتمام الأميركي، لكن ليس في صلبه، فواشنطن تدفع باتجاه دمج هذه القوات في المنظومة العسكرية السورية، واستلام دمشق كل الملفات التي هي اليوم في حوزة هذه القوات وفي مقدمتها السجون التي يُحتجز فيها آلاف المقاتلين من "داعش". ومنذ تسلّمها مقاليد الأمور في البلاد، غلّبت الإدارة السورية مقاربة "هادئة" مع ملف هذه القوات، فوقّعت اتفاقاً معها لدمجها في الجيش السوري، لتجنيب البلاد دورات عنف جديدة.
تقاطع مصالح
وتُبدي الإدارة السورية انفتاحاً كبيراً للتعاون مع واشنطن في كل الملفات، بعد رفع العقوبات الأميركية التي كبّلت اقتصاد سورية عقوداً طويلاً، فدمشق تريد التخلص نهائياً من الأسلحة الكيميائية التي تركها نظام الأسد، وتريد تعاوناً دولياً بهذا الشأن. وكانت هذه الإدارة واضحة منذ البداية أنّها ليست بصدد تصدير الثورة إلى خارج الحدود، وأنّها لن تشكل خطراً على الدول المحيطة بها، فـ"البلاد منهكة"، والأولوية لحماية السِّلم الأهلي وإنعاش الاقتصاد، لكنّ هذه الإدارة تريد في المقابل موقفاً أميركياً رادعاً للجانب الإسرائيلي للعودة إلى اتفاقية فكّ الاشتباك التي ظلت تحكم الجنوب السوري نصف قرن، والانسحاب من المناطق التي احتلتها بُعيد سقوط نظام الأسد.
أحمد القربي: الاهتمام الأميركي في سورية ينبع من أهمية ملف الأجانب لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط
وسهّلت الإدارة عمل بعثة قطرية برفقة عدد من الأميركيين بدأت قبل أيام البحث عن رفات رهائن أميركيين قتلوا على يد "داعش" أثناء سنوات سيطرته على مناطق واسعة من الجغرافية السورية، في مؤشر واضح على سعيها للتأسيس لعلاقات جديدة مع الجانب الأميركي. وتشير المعطيات إلى أن إدارة الشرع تبدي تعاوناً في ملف المقاتلين الأجانب، إذ يجري إبعادُهم عن المناصب القيادية في المؤسّسة العسكرية وإعادتهم إلى مراكز في شمال غربي البلاد بعيداً عن العاصمة أو مناطق أخرى.
ورأى الباحث السياسي أحمد القربي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الاهتمام الأميركي في سورية "ينبع من أهمية هذا الملف لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط"، معرباً عن اعتقاده بأن سورية لا تمثل تلك الأهمية للولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وتابع: "الجانب الإسرائيلي مهتم بما يجري في سورية لأسباب أمنية باتت معروفة، والسعودية تبدي اهتماماً لأسباب تتعلق باستقرار المنطقة، والعقوبات الأميركية التي رفعتها واشنطن عن سورية إنما جاءت نتيجة ضغط دول حليفة للأميركيين وأبرزها السعودية"، وقال: "اعتقد أن اهتمام هذه الدول بالملف السوري، هو الدافع الرئيسي لواشنطن لإيلائه الاهتمام ذاته"، وبرأيه، "لا جديد على الملفات الموجودة على طاولة التفاوض بين دمشق وواشنطن"، مضيفاً: "هناك ملف المقاتلين الأجانب وملف محاربة داعش، وعدم إعطاء نفوذ لإيران، وملف السلاح الكيميائي". وأعرب عن اعتقاده بأن الملفات الماثلة التي تثير اهتمام الولايات المتحدة في سورية هي "ذات أبعاد أمنية وعسكرية".
ومتّفقاً مع القربي، رأى الباحث السياسي عبد الرحمن الحاج، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الاهتمام الأميركي بسورية "ناشئ من تقاطع مصالح أميركية مع المصالح الإقليمية، وهي مصالح تتجاوز المصالح الإسرائيلية". وتابع: "سورية إبّان عهد بشار الأسد كانت أحد مصادر تهديد الأمن القومي الأميركي والإقليمي، من خلال توليد الإرهاب والمخدرات (كبتاغون) والهجرة، والحروب التي لا نهاية لها، والوجود الإيراني المهدِّد للاستقرار في المنطقة"، وأشار إلى أن إسقاط الأسد في 8 ديسمبر الماضي "حقّق إنهاءً لكل تلك التهديدات دفعة واحدة، ما جعل الدول الإقليمية (باستثناء إسرائيل) تحرص على تثبيت هذا التغيير وإقناع الولايات المتحدة بدعمه"، وتابع: "أدى سلوك الحكومة الانتقالية في دمشق بقيادة الرئيس الشرع وخطابها السياسي القائم على السلام، ومنع أن تتحول سورية إلى منصة لاستهداف أو إيذاء دول أخرى، واتخاذ إجراءات ذات معنى في هذا الاتجاه، إلى إقناع جميع الأطراف الدولية والولايات المتحدة على وجه الخصوص بدعم الاستقرار في سورية، خصوصاً أن هناك قناعة عامّة باتت تمثل رؤية جيوستراتيجية لسورية بأن استقرار المنطقة يمرّ عبر استقرارها".
