سورية من إرث الاستبداد إلى بناء الدولة الجديدة

5 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

في ظلّ سنوات طويلة من الصراع والدمار، ومعاناة يومية أثقلت كاهل السوريين، يبرز قرار الإدارة الأميركية رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية بصيصَ أمل في نفق طويل من الظلمة، لما يحمله من دلالاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ قد تُفضي إلى بداية مسار جديد نحو انفراج تدريجي للأزمة، وتوفير أرضية أكثر ملاءمةً لعملية سياسية شاملة ومستدامة، تعالج ما خلّفه النظام البائد من دمار ومعاناة وشرخ عميق في بنية المجتمع والدولة.
تكشف نظرة فاحصة إلى التجربة السابقة أن الإجراءات الاقتصادية، التي غالباً ما يجري تقديمها في سياق "الأدوات غير العسكرية"، قد أثبتت محدوديةَ فعّاليتها في تحقيق الأهداف المُعلَنة، بل إنها، في الواقع، لامست بشكلٍ مباشر حياة المواطنين السوريين، وأثّرت في قدرتهم على تأمين ضرورات الحياة الأساسية. لقد تحوّلت هذه الإجراءات، في أحيانٍ كثيرة، إلى عوامل مساعدة في تسريع وتيرة الانهيار الاقتصادي، وتفسير قصور الخدمات العامّة، وتفاقم مشكلة الفقر والنزوح على نطاق واسع. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار القرار الأميركي المعلن أخيراً بمثابة قراءة جديدة للواقع، نحو تبنّي استراتيجيات أكثر واقعية وتركيزاً في البعد الإنساني، وتشجّع على تفاعل بنّاء وتدريجي مع أيّ سلطة تنفيذية تلتزم مساراً انتقالياً حقيقياً.

ينبع تصوير خيار النظام الديمقراطي اللامركزي دعوةً إلى التقسيم من فهم ضيّق لطبيعة الدولة الحديثة

إن الآثار الإيجابية المحتملة لتخفيف العقوبات تتجاوز البعد الاقتصادي المباشر، لتشمل إمكانية إيجاد مناخ أكثر إيجابية لتعزيز الثقة وفتح قنوات للحوار. ومع ذلك، يظلّ تحقيق هذه الإمكانات مرهوناً بمدى قدرة المؤسّسات السورية، حكوميةً ومجتمعيةً، على إدارة الموارد بشفافية وعدالة، وضمان وصولها إلى مستحقّيها بعيداً من مظاهر الفساد والاستئثار. كما يستلزم ذلك تضافر الجهود بين الأطراف المحلّية والإقليمية والدولية لدعم الاستقرار الشامل وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، التي تمسّ حياة المواطنين بشكل ملموس.
وعلى صعيد السياق السياسي الأوسع، يكتسب تخفيف العقوبات دلالاتٍ إضافيةً، إذ يتزامن مع حراك دبلوماسي إقليمي ودولي متزايد بشأن مستقبل سورية. يمكن النظر إلى هذه الخطوة حافزاً غير مباشر إلى دفع العملية السياسية، وفقاً لجوهر قرار مجلس الأمن 2254، الذي يشدّد على أهمية بناء نظام حكم ديمقراطي تعدّدي يضمن كل حقوق السوريين، وتنوّعهم، ويضع حدّاً لممارسات الاستبداد والإقصاء التي عانتها البلاد عقوداً.
تفرض المرحلة المقبلة مسؤوليةً مضاعفةً على عاتق الحكومة السورية، والقوى الوطنية الفاعلة كافّة، تستدعي التعامل مع هذه اللحظة المفصلية بروح من الجدّية والمسؤولية الوطنية. يتطلّب ذلك ترجمةَ النيات الحسنة خطواتٍ عمليةً ملموسةً على صعيد إطلاق إصلاحات هيكلية حقيقية في منظومة الحكم، وإظهار التزام راسخ بسيادة القانون ومكافحة الفساد بأشكاله كلّها، وتوسيع فضاء الحرّيات العامّة، وضمان مشاركة سياسية فاعلة لكل ألوان الطيف السوري. لم تعد تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين مجرّد مسألة خدماتية، بل أصبحت مكوّناً أساسياً في عملية استعادة الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، وخطوةً ضروريةً نحو تحقيق مصالحة وطنية حقيقية.
في صميم أيّ تصوّر لمستقبل سورية، تبرز القضية الكردية اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة والمجتمع على استيعاب التنوّع وتحقيق العدالة، فالشعب الكردي، الذي يمتلك جذوراً عميقةً في هذه الأرض، وإسهامات تاريخية في بنائها، ظلّ يعاني سياسات التهميش وإنكار الهُويَّة والحقوق المشروعة عقوداً. لا يمكن أيّ مشروع وطني شامل ومستدام أن يكتمل من دون معالجة هذه القضية بشكل عادل وجذري، من خلال تضمين الحقوق الثقافية والسياسية للكرد في الدستور السوري، وضمان مشاركتهم الفاعلة في صياغة مستقبل البلاد، بما يعكس انتماءهم الوطني الأصيل وشراكتهم الكاملة في بناء سورية الغد.
إننا نرى اليوم ملامح إجماع وطني متزايد حول الرؤية المستقبلية لسورية، دولةً مدنيةً ديمقراطيةً لا مركزيةً، تستند إلى مبادئ العدالة والمساواة وحقوق الإنسان والمساءلة، وتقوم على شراكة وطنية حقيقية ومتكافئة بين جميع مكوّناتها. وفي هذا الإطار، فإن أبناء سورية يتطلّعون، إلى مبادرات بنّاءة من الأشقاء والأصدقاء، تسهم في تعزيز هذا التوجّه، عبر تمكين الشعب السوري من بناء دولته الجديدة على أسس راسخة من الوحدة الوطنية، والتنوّع، الثقافي والقومي والديني.

تأكيد وحدة الأراضي السورية وسيادتها الوطنية لا ينبغي أن يُختزَل في إطار المركزية الصارمة

تكتسب الجهود المبذولة لتوحيد الموقف الكردي وتشكيل وفد موحّد أهمية قصوى، ليس ضرورة لتمثيل مصالح المكوّن الكردي فقط، بل إسهامٌ حيوي في تعزيز الوحدة الوطنية، لأن وجود صوتٍ كرديٍّ موحّد في أيّ حوارات سياسية مقبلة يُعزّز من قوة هذا المكون وقدرته على الدفاع عن حقوقه المشروعة، ويمثّل، في الوقت نفسه، إضافةً نوعيةً إلى الجهود الوطنية الرامية إلى إرساء نظام ديمقراطي تعدّدي، يضمن المواطنة المتساوية، ويؤسّس لحكم رشيد يشارك فيه الجميع في صنع القرار وتحديد المصير المشترك.
تأكيد وحدة الأراضي السورية وسيادتها الوطنية قاسم مشترك يجمع عليه جميع السوريين، إلا أن هذا المفهوم لا ينبغي أن يُختزَل في إطار المركزية الصارمة، التي أثبتت التجارب أنها كانت بيئةً حاضنةً للفساد والتهميش والإقصاء. يمثّل تبنّي نظام ديمقراطي لا مركزي ضمانةً حقيقيةً لتوزيع عادل للسلطة والموارد، وتمكين المجتمعات المحلّية من إدارة شؤونها بكفاءة وفعّالية ضمن إطار الوحدة الوطنية، بما يُعزّز الانتماء الوطني، ويُحقّق التنمية المتوازنة في كل أنحاء البلاد. تصوير هذا الخيار دعوةً إلى التقسيم ينبع من فهم ضيّق لطبيعة الدولة الحديثة، التي تستمدّ قوّتها من قدرتها على احتواء تنوّعها، وتقدير اختلافات مكوّناتها، وبناء شرعيتها على أساس من رضا مواطنيها وثقتهم بمؤسّساتها.
ختاماً، يتطلّب استثمار هذه اللحظة التي تحمل في طياتها بوادر انفتاح سياسي واقتصادي تبنّي رؤية وطنية متكاملة وشاملة لبناء سورية المستقبل. رؤية تنطلق من الاعتراف بالحقائق الراهنة، وتؤمن بالشراكة السياسية والاجتماعية الحقيقية، وتتبنّى إصلاحاتٍ جوهريةً تمسّ جوهر المشكلات، وتضع المواطن السوري، بكلّ مكوناته وتطلعاته، في صلب أيّ مشروع وطني. لقد آن الأوان لتجاوز حقبة الاستبداد والانقسام، والانطلاق نحو بناء عقد اجتماعي جديد، يفتح الباب أمام مستقبل تزدهر فيه سورية بتنوعها ووحدة أبنائها.

Read Entire Article