"شبكة العنكبوت" الأوكرانية تحيك خيوطها حول روسيا

2 days ago 3
ARTICLE AD BOX

قبل ساعات من الجولة الثانية من المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول اليوم الاثنين، نجحت كييف في تحقيق أكبر اختراق حربي في العمق الروسي، وكشفت أنها قادرة على نقل المعركة إلى سيبيريا والقطب الشمالي عبر استهداف الطائرات الاستراتيجية، المكون المهم في "الثالوث النووي" الروسي. وفيما تتضارب التقارير حول حجم الخسارة الروسية، وتتراوح بين عدة طائرات و41 طائرة استراتيجية قادرة على حمل صواريخ ثقيلة، فإنه من المؤكد أن الضربة الموجعة التي أطلقت عليها كييف اسم "شبكة العنكبوت" الأوكرانية أربكت حسابات الكرملين. ووضعت الضربة الأوكرانية القيادة الروسية بين خيار الرد المزلزل القوي وإفشال جولة المفاوضات، أو تجرع مرارة الصمت.

وفيما وجه تأكيد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالمشاركة في مفاوضات إسطنبول، وعرض أسماء الوفد المفاوض، بعد الإعلان عن استهداف المطارات، رسالة قوية بأن اجتماعات إسطنبول لن تكون مجرد محاولة لتلطيف شروط استسلام بلاده في ظل التقدم الروسي في جبهات دونيتسك وزابوريجيا وسومي، وأن الحرب لم تحسم بعد، يواجه المفاوضون الروس خيارات صعبة، فالضربة الأوكرانية تفوق بتأثيرها المعنوي ودلالاتها العسكرية "الإنجازات" العسكرية الروسية في شرقي أوكرانيا، وتشير بوضوح إلى صعوبة فرض شروط استسلام على أوكرانيا. وفي المقابل فإن أي تنازل روسي في المفاوضات، من قبيل الموافقة على هدنة 30 يوماً قبل ردّ عنيف، قد يفسر على أنه ضعف ورضوخ لقواعد اشتباك جديدة فرضتها أوكرانيا.

"شبكة العنكبوت" الأوكرانية... نقلة نوعية

وبعيداً عن توقيت العملية عشية انطلاق جولة المفاوضات في إسطنبول، شكلت "شبكة العنكبوت" الأوكرانية نقلة نوعية في التخطيط والتنفيذ. وكشفت أن إنشاء مناطق آمنة في سومي وخاركيف واحتلال المناطق الأوكرانية الأربع دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون، رغم صعوبة تحقيق ذلك في سنوات في ظل طبيعة المعارك الحالية، لا يعني أن تنعم روسيا بالسلم والأمن.


كشفت مقاطع الفيديو المسربة عن تدمير وأضرار بما بين 7 و9 طائرات من القاذفات الاستراتيجية


وبعد ساعات من الصمت، أقرت وزارة الدفاع الروسية بحصول الضربات على خمسة مطارات عسكرية، ضمنها مطاران في منطقة إيركوتسك شرق سيبيريا على بعد نحو 4200 كيلومتر من الحدود الروسية الأوكرانية، ومورمانسك في الدائرة القطبية الشمالية على بعد 1900 كيلومتر عن الحدود. وقالت الوزارة إنها صدت الهجمات على مطارات عسكرية في إيفانوفو ورايازان الواقعتين وسط الجزء الأوروبي من روسيا، إضافة إلى مطار في مقاطعة أمورسك شرقي البلد. وذكرت الوزارة، في بيان على تطبيق تليغرام،  أمس الأحد، أن عدداً من الطائرات في مطاري مورمانسك وإيركوتسك تضررت.

وفيما قالت أوكرانيا إن الضربات أسفرت عن تدمير 41 طائرة، من ضمنها قاذفات استراتيجية، ودمرت أكثر من ثلث أسطول الطائرات الاستراتيجية الروسية، كشفت مقاطع الفيديو المسربة من الأماكن المستهدفة عن تدمير وأضرار بما بين 7 و9 طائرات من القاذفات الاستراتيجية من طرازات “ A-50"، وتوبيلوف -95، وتوبيلوف –22 إم3. وفي حال الأخذ بالرقم الأدنى للخسائر فإن عدد الطائرات المدمرة يوازي عدد القاذفات الاستراتيجية التي خسرتها روسيا منذ بداية حربها على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022.

وكشفت عملية "شبكة العنكبوت" الأوكرانية عن اختراق أمني كبير، وقدرة كييف على تجنيد عناصر لها في الداخل الروسي، وعدم اقتصار الضربات على مدى المسيّرات الأوكرانية التي ضربت سابقاً أهدافاً على بعد نحو 1500 كيلومتر من الحدود مع روسيا. وتمثل عملية "شبكة العنكبوت" الأوكرانية نقلة نوعية جديدة في مسار الحرب. ففي عام 2022، شنت روسيا ضربات بعيدة المدى في عمق أوكرانيا، واثقة من أن كييف لن تستطيع الرد بالمثل. بيد أنه بحلول عام 2023، تغير هذا الوضع، فقد حصلت أوكرانيا على صواريخ متوسطة المدى من طراز "هيمارس" من الولايات المتحدة، وصواريخ كروز من طرازي "سكالب" الفرنسي و"ستورم شادو" البريطاني، وطوّرت طائرات دون طيار هجومية بعيدة المدى. وسمحت هذه الصواريخ والطائرات دون طيار، بضرب السكك الحديدية الروسية والطرق ومخزونات الذخائر ومنشآت الصيانة ومستودعات التخزين والوقود. ونتيجة لذلك، وجدت روسيا صعوبة كبيرة في الحفاظ على قواتها في الخطوط الأمامية ودعمها لوجستياً.

ومع اتساع رقعة المناطق المستهدفة بالصواريخ والقذائف الاوكرانية نقلت موسكو بعض الطائرات الاستراتيجية ومخزونات الأسلحة إلى أماكن بعيدة في عمق روسيا التي تزيد مساحتها عن 17 مليون كيلومتر مربع، وتقع بين خطي طول 19 شرقاً و169 غرباً عبر تسع مناطق زمنية. وعطلت المسيّرات الأوكرانية السنة الماضية الملاحة الجوية في مطارات موسكو وتتارستان وجنوب روسيا.


تملك روسيا بدائل لمواصلة ضرب الصواريخ على أوكرانيا


ويمثل نجاح أوكرانيا في استهداف مطارات بعيدة تطوراً مهماً في استراتيجيتها المرتكزة إلى حرمان روسيا من تحقيق النصر النهائي عبر حرمان جيشها في أوكرانيا من إمدادات النفط والذخائر، واستهداف مراكز التصنيع الحربي، وضرب القواعد الجوية التي تستخدمها الطائرات والقاذفات الروسية المستخدمة في الحرب على أوكرانيا. ومن الواضح أن الضربات الأخيرة تقوي موقف أوكرانيا التفاوضي، وتبعث رسائل للغرب حول قدرتها على الصمود وتحقيق نتائج في حال استمرار الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي.

تأثيراتها على الحرب

وتراوحت التقديرات بشأن الخسائر المادية لروسيا نتيجة هجوم "شبكة العنكبوت" الأوكرانية على القاذفات الاستراتيجية بما بين 2 و7 مليارات دولار. وعسكرياً يصعب على قطاع التصنيع العسكري تعويض هذه الطائرات بسرعة. وتؤمن طائرة "A-50" العديد من الوظائف الهامة للحرب الدائرة في أوكرانيا، مثل الكشف عن أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ الموجهة وتنسيق الأهداف للمقاتلات الروسية. وتمتلك روسيا أقل من عشر من هذه الطائرات، التي يقدر سعر الواحدة منها بنحو 350 مليون دولار أميركي. أما توبوليف تو-95، وتوبوليف تو-22، بالإضافة إلى توبوليف تو-160، فجميعها قاذفات روسية ثقيلة تُستخدم بانتظام لإطلاق الصواريخ على المدن الأوكرانية. وتُعد "تو-95" أقدم الطائرات الثلاث، وهي من الحقبة السوفييتية، وقامت بأول رحلة لها في العام 1952، وكانت تستخدم في الأصل لحمل القنابل النووية، لكنها تطورت منذ ذلك الحين لإطلاق صواريخ كروز. ويمكن لكل طائرة أن تحمل 16 صاروخ كروز، من طراز "Kh-55/Kh-555" أو الأحدث من طراز "Kh-101وKh-102 "، وهي مزودة بمحركات توربينية بدلاً من النفاثة، وتستطيع الطيران لمسافة 15 ألف كيلومتر من دون إعادة التزود بالوقود. وتستطيع الطائرة "تو-22" إطلاق صواريخ من طراز "Kh-22"، التي تشكل مشكلة خاصة لأوكرانيا، فهي أسرع من الصوت، وتصل سرعتها إلى نحو 4000 كيلومتر في الساعة. وفي الوقت الحالي، لا يمكن إسقاطها إلا بواسطة نظام الدفاع الجوي باتريوت الأميركي الصنع، وربما "SAMP-T"، وهو نظام إيطالي فرنسي مشترك. وتُعد توبوليف 160 القاذفة الاستراتيجية الروسية الأكثر حداثة، ودخلت الخدمة في العام 1987، ولا تزال حتى يومنا هذا أكبر قاذفة قنابل عاملة في العالم، ويمكنها حمل 12 صاروخاً من طراز " Kh-55 " وما يصل إلى 24 صاروخاً من طراز " Kh-15". وتم تحديث هذه الطائرات على مراحل في العقدين الأخيرين، فيما واجهت روسيا مشكلة في تحديث محركاتها بعد العقوبات الغربية في 2014.

ورغم الخسارة الباهظة عسكرياً ومعنوياً، فإن روسيا تملك بدائل لمواصلة ضرب صواريخ كروز والصواريخ المجنحة، والصواريخ البالستية من غواصاتها ومنصات أرضية وطائراتها الحديثة. وحسب البيانات المفتوحة، امتلكت القوات الجوية الفضائية الروسية حوالي 57 طائرة من طراز "تو- 22 أم3 " حتى منتصف عام 2023.


رومان أليخين: نأمل أن يكون الرد شبيهاً برد الولايات المتحدة على هجوم بيرل هاربر


ووفقاً لتقرير لموقع الأخبار العسكرية البولندي "Defence24"، مطلع العام الحالي، امتلكت روسيا نحو 1200 طائرة مقاتلة من جميع الأنواع، بما في ذلك القاذفات الاستراتيجية. وذكر تقرير الموقع أن هناك 550 طائرة "تقترب بالفعل من نهاية دورة حياتها"، وفي الوقت ذاته، فإن المجمع الصناعي العسكري الروسي غير قادر على مواكبة إنتاج طائرات جديدة لتحل محل المتقادمة. وحسب التقديرات الغربية التي أعاد نشرها التقرير، فإن معدلات إنتاج الطائرات في روسيا آخذ في الانخفاض. وحسب الدراسة فقد سلم المجمع الصناعي العسكري 27 طائرة مقاتلة جديدة للقوات الروسية في 2022، وانخفضت إلى 24 في 2023، و23 بحلول نهاية 2024. ومن المرجح أن المعلومات المذكورة في التقرير صحيحة، نظراً لأن الجانب الروسي ركز في السنتين الأخيرتين على تحديث الدبابات والمدرعات، وإنتاج الذخائر اللازمة للحرب البرية واقتحام المدن والبلدات الأوكرانية.

عملاء ورؤوس ساخنة

في بيانها، أشارت وزارة الدفاع الروسية، أمس الأحد، إلى إلقاء القبض على متورطين في العملية. وفي المقابل، أكد زيلينسكي تأمين خروج منفذي "هجوم شبكة العنكبوت" الأوكرانية موضحاً أن مركز العمليات للإشراف على عملية نقل وإطلاق المسيّرات من الشاحنات كان بالقرب من مركز أمني روسي في إحدى المقاطعات. وسلط نجاح أوكرانيا في ايصال المسيّرات إلى أعماق روسيا، وإطلاقها قرب مطارات حيوية الضوء على قدرة الاستخبارات الأوكرانية، التي عملت منذ بداية الحرب، على جذب المعارضين لبوتين والرافضين للحرب، وتمكنت من بناء تشكيلات عسكرية اخترقت الحدود في بيلوغراد وكورسك وبريانسك بين عامي 2023 و2024، وبدا أنها طورت أساليبها بشكل لافت مع زيادة استهداف البنى التحتية، واغتيال جنرالات كبار في الجيش الروسي وغيرهم عبر تجنيد عملاء في الداخل الروسي.

ورغم التكتم على كثير من التفاصيل في الإعلام الرسمي والتركيز على التقدم في سومي ودونيتسك، أثار هجوم "شبكة العنكبوت" الأوكرانية جدلاً واسعاً على قنوات "Z" الموالية للحرب، والتي وصفت الهجوم على القواعد الجوية الروسية بأنه "يوم أسود للطيران الروسي". وقال المدون رومان أليخين، إن ما حصل "بيرل هاربر الروسي". كما أعربت قنوات على "تليغرام" مؤيدة للجيش عن أملها في "رد روسي قوي". وكتب أليخين: "نأمل أن يكون الرد شبيهاً برد الولايات المتحدة على الهجوم على بيرل هاربر، أو حتى أشدّ قسوة". وقال حساب "Two Majors" (الضابطان): "هذه ليست مجرد ذريعة، بل هي سبب مباشر لبدء ضربات نووية ضد أوكرانيا". وذكرت قناة "ريبار" الروسية المؤيدة للحرب على "تليغرام" أن العديد من قاذفات "تو-95" دمرت في الهجوم. وقالت: "كما قلنا من قبل، فإن القاذفات الاستراتيجية من طراز توبوليف 95 وتوبوليف 22 قد توقفت عن الإنتاج منذ فترة طويلة ولا يمكن استبدالها، هذه الخسائر لا يمكن تعويضها. هذه، وبدون مبالغة، ضربة خطيرة لقواتنا الاستراتيجية - نتيجة لفشل استخباراتي كبير وموقف الإهمال تجاه معدات الطيران، التي ظلت، حتى بعد الهجمات المتكررة، متوقفة في حقول مفتوحة دون أي ملجأ". وكتبت قناة "فايتربومبر" المقربة من القوات الجوية الروسية على منصة تليغرام، أمس الأحد: "سيُذكر اليوم كيوم أسود للطيران الروسي بعيد المدى".

من جانبه، أشار نائب رئيس مجلس الدوما (البرلمان) الروسي أندريه غوروليف إلى وجود تقصير في عمل الاستخبارات، داعياً إلى محاسبة قاسية للمقصرين. وقال غوروليف، رداً على سؤال لموقع "تشيتا. رو" حول عملية "شبكة العنكبوت" الأوكرانية اليوم الاثنين: "لا أعتقد أن هناك أي خير. هذا تقصير في حماية المطار، والأهم من ذلك، تقصير في جميع أجهزة المخابرات لدينا، التي سمحت لهذه الشاحنة بالوصول إلى هناك. يجب محاسبة المقصرين. بالنسبة لنا الآن، تُعدّ خسارة جميع المرافق الاستراتيجية أمراً بالغ الأهمية، والطيران الاستراتيجي هو الذي تعرّض للهجوم، وهذه هي المشكلة الرئيسية". وشدد على أنه "يجب قطع الرؤوس في مثل هذه الأمور". وطرح البرلماني تساؤلات حول كيف وصلت المسيّرات إلى هناك، ولماذا لم يوفر الأمن للمطار، ومن كان متورطاً في هذه القضية أصلاً. وقال: "يجب أن نجري تحقيقاً من جميع الجهات، ونتوصل إلى استنتاجات، ونحافظ على المطارات".
وطالب عضو مجلس الاتحاد الروسي السيناتور أندريه كليشاس، برد على كييف رداً على هجمات الطائرات المسيّرة. وقال، في بيان: "يجب أن يكون هناك رد على جميع الهجمات، وسيكون هناك رد. أنا متأكد من ذلك". ومن المنتظر أن تبرز أول تداعيات هجوم "شبكة العنكبوت" الأوكرانية غير المسبوق على طاولة المفاوضات في إسطنبول. وربما يحتم الواقع الجديد بعد "شبكة العنكبوت" الأوكرانية على الكرملين إعادة التفكير بطروحاته السابقة المبنية على مواصلة المفاوضات من دون وقف للأعمال القتالية لإجبار كييف على تقديم تنازلات عن أراضيها بصيغة أقرب للاستسلام مع تقدم الجيش الروسي ميدانياً في دونيتسك وزابوريجيا والتلويح باحتلال خاركيف وسومي إذا لم ترضخ أوكرانيا.

ومما يحفز الكرملين على إعادة التفكير بطروحاته، نجاح أوكرانيا بنقل خطوط التماس إلى عمق روسيا على مسافة تتجاوز 4 آلاف كيلومتر. وربما تقرب هذه الهجمات الوصول لصيغة تتضمن وقف إطلاق نار كامل وغير مشروط، جواً وبراً وبحراً، لمدة 30 يوماً. وبالربط مع اتصال وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي ماركو روبيو، أمس، يبدو أن واشنطن لم تمنح موسكو الضوء الأخضر لأي رد انتقامي بانتظار ما ستسفر عنه مفاوضات إسطنبول مع مراعاة وقع هجوم "شبكة العنكبوت" الأوكرانية الأخير.

Read Entire Article