ARTICLE AD BOX
في زيارته الأخيرة إلى بيروت، حلّ الشاعر والديبلوماسي شوقي عبد الأمير ضيفاً على مجموعة "النهار" الإعلامية. تتداخل في سيرته محطات الشعر والمعنى والدور الثقافي الذي يتولّاه اليوم مديراً عاماً لمعهد العالم العربي في باريس، المؤسسة التي يرى فيها جسراً حضارياً لا مثيل له، وسفارة للغة العربية في قلب أوروبا.
في هذا الحوار، يتحدّث عبد الأمير عن المعهد، والهوية، والتحديات الثقافية المشتركة، وعن الدور الذي يمكن أن يضطلع فيه العرب في صياغة مستقبلهم الثقافي على الساحة العالمية.
◾ أنت في بيروت لتوقيع ديوانك الأحدث "أحجار تفضح الصمت". تحدّثنا سابقاً عن الذاكرة وذكرياتك في بيروت وعن أحجار المدينة التي اختبرتها وأحجار المدن التي حللتَ فيها، والمحطات التي طبعت شخصيتك. هل للأحجار ذاكرة، وماذا تفضح بالنسبة إليك؟
الحجر يعني حكاية معقدة شعرياً. طبعاً اللغة الشعرية مشحونة بدلالات ورموز وإيحاءات. بالنسبة إليّ، الحجر حينما ينطق، ينطق صامتاً. الحجر ينطق ويكون أكثر تأثيراً، لأن اللغة الصامتة هي اللغة العمودية التي تخترق المتلقّي، ولهذا تفضح الأحجار الصمت حينما تقول كلمتها غير القابلة للدحض، لأنها تنطلق من حقيقة الوجود ذاته. يمكنني مثلاً أن أعطيك جملة أقول فيها ما أريد، لكنك تقرؤها بطريقة مختلفة عن غيرك. ومن هنا، عنوان "أحجار تفضح الصمت" يحمل دلالات كثيرة، وأعتبره عنواناً شعريّاً مهمّاً.
◾ أحببتَ وتأثرتَ بشعر آرثور رامبو، وأردتَ قراءته بلغته الفرنسية؛ نقطة تحوّل في مسيرتك توّجتها بتولّي مهمّة المدير العام لمعهد العالم العربي في باريس. حدّثنا عن هذه التجربة.
هذه مسألة غريبة. عندما كنت طالباً في الثانوية وقع بين يدي كتاب اسمه "آرثور رامبو حياته من شعره" لخليل خوري. قرأته، فكان صاعقة بالنسبة إليّ. شعر مذهل رهيب! يكتب رسالة إلى فيرلين في حينه، الشاعر الكبير وهو في سنّ الـ 16 سنة، يقول له "قررت أن أعطيك درساً في الشعر الحديث"؛ وفعلاً لم يكن درساً، بل زلزالاً للشعر الحديث. فكّرتُ أنّه يجب أن أقرأه بلغته، وانتهى الأمر بي في باريس حيث قرأته بلغته وترجمته، وأنا الذي اكتشف بيته في عدن. لعبة أقدار لم أخطّط لشيء منها.
◾ في مكان ما أنصفتَ الوجه الاستشراقيّ العربي لرامبو.
ثمة أشياء غريبة لا يمكن تفسرها. أنا الآن في فرنسا، ولي دور كبير في الحياة الرسمية بصفتي المدير العام لمعهد اللغة العربية، وفي الحياة الشعرية، لكنّها ولدت من قراءة كتاب وأنا طالب في الثانوية عن آرثور رامبو.
◾ معهد - عالم عربي - باريس. ثمّة صراع بين العالم العربي وأوروبا، وبينه وبين فرنسا، وتيارات عربية مندّدة بالسياسات الفرنسية، وفرنسية مندّدة بالمهاجرين. ما رسالة المعهد في هذا الإطار؟
لا توجد مؤسسة في العالم أجمع تشبه معهد العالم العربي في باريس. أولاً، يجمع كلّ الدول العربية، مع دولة عظمى. فرنسا أعطت - وهذا يجب أن يفهمه العرب - فرنسا أعطت للعرب مكانة كبرى ببناء هذا الصرح الذي يضمّ نحو 250 موظفاً، ويقدّم الفنون والمتاحف وينظّم المعارض والندوات ويكرّم الموسيقى والسينما. معهد العالم العربي ليس معهداً، إنّما مؤسسة ثقافية فنّية كبرى. وبعد 40 سنة من العمل، أصبح نصباً باريسياً ومنجزاً حضارياً عربياً في فرنسا، مهمّته الدفاع عن الثقافة العربية في فرنسا وعبرها في العالم، والتعريف بالنتاج الثقافي الإبداعي العربي من كلّ مكان ونقله إلى فرنسا لتعريف الفرنسيّين بأنّ العرب ليسوا مجرّد بدو وليسوا مجرّد معارك طاحنة وليسوا مجرّد بترول، إنما حضارة وثقافة وشعر ورواية وتاريخ.
في أغلب أوروبا، هناك مدّ يميني متطرّف يتّخذ من المغتربين ورقة سياسية ويحاول فيها أن يستدرّ العطف بدعم من الطبقات الضعيفة المسحوقة. للأسف تصاعد هذا المنطق في الفترة الأخيرة.
◾ تقابله أصولية عربية في بعض الدول العربية، ونزعة نحو الانغلاق ومعاداة الغرب.
طبعاً هو يستثمر المدّ الأصولي ويعتبره مطية من المطايا في منطق تبسيطي غير صحيح، لكنّه يتغذّى من بعض الممارسات الموجودة بين المغتربين الذين وكأنّهم يعملون ضدّ أنفسهم. لكنّني أعتقد، وهي ظهرت في الواقع في الانتخابات الأخيرة، اليسار أغلبية - أغلبية نسبية وليست مطلقة - لكن هذا مؤشر أنّ الشعب الفرنسي شعب حي وليس عنصرياً بأغلبيته.
◾ البعض يرى أنّ معهد العالم العربي "يفرنج" أو "يفرنس"، أو يسعى إلى دعم المدّ الفرنسي والسطوة الغربية على العالم العربي وعلى الثقافة العربية.
دور المعهد هو صدّ هذا المدّ الذي يتّصف بالجهل والسطحية والذي يُستغلّ سياسياً.
◾ هل لاحظتم تغيّراً في اهتمامات الجمهور بالعالم العربي منذ تأسيس المعهد؟
السؤال صعب، ولكن هناك مئات الآلاف يتوافدون على المعهد للمشاركة بالندوات، والمعلمون يأتون بأفواج التلامذة من أعمار صغيرة إلى أعمار كبيرة. المعهد أصبح حالة حضارية عربية في باريس، هذه قضية لا نقاش فيها، لكن ما مدى تأثير هذه الحالة في تغيير الرأي العام الفرنسي؟ لا بدّ أن يكون له تأثير إيجابي، فالمعهد حاجة ضرورية.
◾ ما مدى استقلالية المعهد في اختيار برامجه ومعارضه عن السياسات الخارجية الفرنسية؟
بإمكاني أن أقول لك أنّ المعهد مستقلّ مئة في المئة باختيار برامجه، هذه إحدى الأمور التي يصرّ عليها، ولولاها لكان انحسب على الدولة الفلانية أو على التيار الفلاني وكان احترق. المعهد نجح لأنّه خرج من أيّ بصمة خاصة بدولة أو بأيديولوجيا. اللغة العربية والثقافة العربية والإبداع العربي فقط. وحينما نقول "عربي"، تدخل كلّ الدول العربية والعرقيات العربية والديانات الموجودة في العالم العربي، كلها تدخل تحت هذه القبّعة.
حينّما قدّمنا "الحج" الإسلامي في معرض كبير، قدّمنا رأساً "المسيحيون في الشرق" وبعده "اليهود في الشرق". لا فرق.
◾ ضربة معلم تُحسَب للمعهد، وفيها شيء من الجرأة أن يحكي عن هذه الفئات المتصارعة في الشرق.
نعم، لأنّ المعهد قائم على الأشياء العميقة، وليس على الأشياء السطحية. الحكومات تتغيّر وكذا السياسات، والدول تدخل في حروب، لكنّ اللغة العربية تبقى. نحن في العمق، وبمعنى ما، نحن الحضن الذي يجمع كلّ هذه الأطراف حينما يتصارعون، لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية. ثمّة حضن هو الحضن العربي والحضن الحضاري الذي يستقبلهم المعهد فيه.
◾ قد يسأل البعض عن جمهور معهد العالم العربي، وهو سؤال ربما إجابته معروفة. العرب يشكّلون شريحة كبيرة، فما رسالة المعهد لهم؟
نريد أن نقول لكلّ العرب، أوّلاً انتبهوا إلى لغتكم فهذه ثروة. ثانياً، تاريخكم لا تجعلوه ضحية للاختلافات السياسية السريعة الزوال، انتبهوا إلى الأصول وإلى جذوركم الحضارية، لا الجذور الدينية بالمعنى السلفي، إنما جذور الحضارة التي تمتدّ إلى جلجامش وفينيقيا وفرعون. وهي دعوة إلى كونية الحضارة العربية لينتبه العربي في فرنسا لها.
◾ ما المشروع الذي تعتزّ به في المعهد؟
أحضّر لمجلة أولى من نوعها - وهو مشروع أول في العلاقات الثقافية العربية الفرنسية - مؤلّفة من 120 صفحة بالألوان، ستكون فصلية بالبداية وستتحول إلى شهرية، تصدر باللغة الفرنسية فقط ورقياً ورقمياً. عنوانها سيكون "الآداب العربية الحديثة" ونعمل على العدد الصفر. بالفرنسية عنوانها "LAM"، وتُشبه كلمة "L'âme"، أي أننا سنُصدر "الروح العربية"، وهذه أولى بصماتي في المعهد.
◾ أين ترى معهد العالم العربي في السنوات المقبلة؟
المسألة مرتبطة بدور العرب في المعهد. إذا انتبه العرب لأهمّية المعهد، فسيُصبح قبلة لهم ولثقافتهم ولحضورهم في العالم. وإذا لم ينتبهوا، فما حكّ جلدك مثل ظفرك. الفرنسيّون أعطوهم ودفعوا موازنة المعهد، وإذا لم يدخل العرب بقوة ولم يدعموا حضورهم، فللأسف لا أستطيع أن أتحدّث عن مستقبل زاهر. لا أريد أن أكون متشائماً، لكننا عند منعطف تاريخي، وعلى العرب أن يتلقّفوا الكرة وهم قادرون على ذلك. وتفاؤلاً منّي، أرى أنّهم لن يتركوا هذه الفرصة، ولكننا نحتاج إلى عمل.
◾ هذا أقصى المبتغى في العالم العربي، جلّ ما نتمنّاه.
التفاؤل ضروري، فهو عنصر أساسي في البناء. لن تساهم في بناء شيء وأنت تفكّر بأنّه سيفشل.
◾ بالحديث عن التفاؤل، وعن رؤيتك الاستشرافية، هل تتخوّف من الذكاء الاصطناعي على الثقافة، والثقافة العربية والمثقّف العربي؟
سؤال مهم. مسألة الذكاء الاصطناعي هي في الواقع استقالة العقل البشري. العقل البشري يبتكر ما هو أعظم منه ليستقيل. هذه الاستقالة خطيرة، وتحتاج إلى إعادة نظر بشرية. أنا مؤمن بالعلم، والذي اكتشف هذا العقل سيستطيع أن يحمي البشرية من أعراضه، ولكن ليس من دون خسائر. العالم اليوم لم يعد قرية صغيرة بل شاشة صغيرة في جيب كلّ منّا، وعلينا أن نبحث في كيف نسيطر على هذا التطوّر وكيف نوظّفه فقط في صالح البشرية. هناك خسائر، ولكن يجب أن يكون المرء متفائلاً، فلكلّ عصر قيمه وإيجابياته وسلبياته. مَن في وسط المعركة لا يرى أطرافها، هكذا يقول المثل العربي، ولكن أؤمن بمستقبل البشرية الذي يقوده العلم، السيد، وكلّ ما تبقّى من أيديولوجيات يبقى فردياً، فيما العلم يجمعنا، ونجلس متدرّبين أمامه.
◾ من هنا وجبت علينا العودة إلى الأعماق والجذور والثقافة التي توحّدنا. ليدنا ثقافة واحدة في العالم العربي، مهما تشعّبت وتفرّعت وتنوّعت أوجهها.
طبعاً، الدول الكبرى تنشر ملايين المليارات لنشر لغتها. الفرنكوفونية مثالاً. لديك نحو 350 مليون فرد يتكلّمون لغة واحدة ولا نستثمر في هذا. العصر الذي نعيش فيه صعب، وبالنسبة إلى العرب، يحتاجون إلى إعادة النظر في الأشياء الأساسية التي تجمعهم وألّا يتوقّفوا عند ما يفرّق، مع احترام الحرية الفردية. أوروبا أصبحت حضارة عندما احترمت الحرية الفردية.
◾ هذا ما ينقصنا في أنظمتنا العربية.
هذا ما ينقصنا.