صناعة العدو المتخيّل في فرنسا

4 hours ago 3
ARTICLE AD BOX

يتميّز المشهد السياسي الفرنسي بابتكار المفاهيم والعبارات التي ترتبط، بشكل مباشر أو غير مباشر، بنظريات المؤامرة، لا سيّما التي تتعلق بالمجتمع الإسلامي أو المسلمين، أو بأي تأثير لهم في المجتمع الفرنسي. ويجري الحديث صراحة، ومن دون مواربة، عما يُسمّى "خطر الإسلام في فرنسا".

سبق للساسة الفرنسيين أن روّجوا مفهوم "الانفصالية الإسلامية"، الذي استحوذ على مساحة واسعة من النقاش الإعلامي والمجتمعي عدة أشهر وسنوات. ومن خلال هذا المفهوم، بدا أن اليمين المعتدل، نظريّاً على الأقل، يسعى إلى استرضاء اليمين المتطرّف، الذي منحه الناخب الفرنسي في انتخابات صيف العام الماضي (2024) موقعاً "رفيعاً" في الساحة السياسية. كما سعى اليسار التقليدي الفرنسي إلى محاباة هذه الظاهرة من خلال اتخاذ مواقف تتعارض مع ماضيه النضالي والحقوقي، بحيث سطح خطابه المرتبط بالهجرة وبالأجانب قريباً للغاية من خطاب اليمين المعتدل المتجه نحو اليمين المتطرّف. ما أتاح لمجموعة راديكالية أن تنفصل عن الحزب الاشتراكي، كي تشكل مجموعة سياسية جديدة تتميّز بالوفاء للمبادئ اليسارية التقليدية، على الرغم من اتهامها بالتطرّف من قبل المهيمنين على الحياة الإعلامية والسياسية.

ومثل ما هو الحال في المجتمعات الرأسمالية حيث تُجبر الأسواق المنتجين على تجديد أشكال بضائعهم باستمرار لجذب المستهلكين، حتى وإن كان ذلك على حساب المحتوى، يجرى التعامل مع الأفكار والمفاهيم السياسية بالمنطق نفسه. فالمهم هنا تسويق "المنتج" وبيعه لأكبر شريحة ممكنة من الأفراد والجماعات، وتحويله لاحقاً إلى أساس للسياسات والمواقف العامة.

المهم تسويق "المنتج" وبيعه لأكبر شريحة ممكنة من الأفراد والجماعات، وتحويله لاحقاً إلى أساس للسياسات والمواقف العامة

واليوم، يخرج علينا "كبار" المحللين في العلوم السياسية، ومَن يُقدّمون أنفسهم بوصفهم مختصّين في الشأنين العربي والإسلامي، بمفهوم جديد وجذّاب من حيث التسمية والتسويق. بعض النخب الثقافية العربية، خصوصاً منها من تعتبر أن رضى الآخر الأبيض هو الأساس، ما زالت تصدّق هؤلاء وتروّجهم. المفهوم الجديد هو "الأنترِيزم" Entrisme ، الذي يمكن أن يُترجم إلى "الاختراق السياسي" أو "التغلغل الحزبي".

ويُعدّ "الأنترِيزم" استراتيجية سياسية يتّبعها حزب صغير نسبيّاً، غالباً ما يكون راديكاليّاً أو متطرّفاً، حيث يقوم بتدريب أعضائه على الانضمام إلى حزب أكبر، عادةً أكثر اعتدالاً وتأثيراً، بهدف التأثير على توجهاته من الداخل. ويسعى هؤلاء إلى التقرّب من أعضاء الحزب الأكبر، في محاولة لاستمالتهم إلى صفوف المجموعة الصغيرة المتطرّفة التي تسلّلت إلى الحزب المعتدل. وبهذه الطريقة، يتمكّن "المندسّون" من التغلغل داخل البنية السياسية المعتدلة، والعمل على تغيير خطاب الحزب أو برامجه السياسية من الداخل، فضلاً عن الاستفادة من موارده التنظيمية والمالية، والوصول إلى جمهور أوسع.

والحقيقة أن هذا المفهوم ليس جديداً، بل تعود جذوره إلى عشرينيات القرن الماضي خلال الثورة الشيوعية، حين ظهر في صفوف التيار التروتسكي، نسبة إلى الزعيم البلشفي ليون تروتسكي (1879–1940) الذي دعا أتباعه إلى الدخول في صفوف الأحزاب الاشتراكية والعمّالية لنشر أفكارهم الثورية بين الجماهير. وفي يومنا هذا، يُستخدم مصطلح "الأنترِيزم" غالباً للإشارة إلى سلوك سلبي، كونه ينطوي على نيةٍ غير مُعلنةٍ من المجموعة الصغيرة تجاه الحزب أو الجماعة الأكبر التي يجرى اختراقها.

استند محرّرا التقرير عن الإخوان المسلمين في فرنسا إلى شهادات من باحثين يمينيين متطرّفين لا مصداقية لهم في أوساطهم العلمية

صدر في باريس، أخيراً، تقرير سرّي، سرعان ما جرى تسريبه وتوزيعه كالنار في الهشيم، تم تكليف سفير سابق إلى جانب محافظ سابق لتحريره. وهو يتعلق بعملية متخيّلة لاختراق وسياسي لجماعة الإخوان المسلمين في مختلف أوجه الحياة الفرنسية، أو كما يدّعون. وعلى الرغم من تمكّن الإدارة الفرنسية من الحصول على معلومات دقيقة وعلمية ذات مصداقية من خلال شبكة واسعة من الباحثين والباحثات المتخصّصين بالعالم الإسلامي وبالإسلام في المجتمعات المهاجرة، إلا أن وزارة الداخلية قررت أن تستعين بدبلوماسي سابق وبرجل شرطة سابق. انطلاقاً من هذا الخيار، تمكن قراءة الهدف منه. إضافة إلى ذلك، فإن وزير الداخلية برونو روتايللو، الذي انتخب أخيراً رئيساً لحزب الجمهوريين، الديغولي نظرياً واليميني المتطرّف عملياً، يسعى، بكل جدّية، إلى أن يتقدّم المشهد اليميني بمختلف درجاته تحضيراً للانتخابات الرئاسية سنة 2027.

لمناقشة هذا التقرير، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعقد جلسة خاصة لمجلس الدفاع الوطني. جلسة خاصة لأعلى مراكز القرار في الجمهورية الفرنسية لمناقشة تقرير خالٍ من المعنى ومن المعلومات الدقيقة، ويشتمل على تقديراتٍ وظنونٍ ومعارف قديمة ومعلوماتٍ مضى عليها الزمن. فيكفي أن يُشار إلى أن هذا التقرير يبحث في خطرٍ محدقٍ لاختراق جماعة الإخوان المسلمين مختلف أوجه الحياة الفرنسية، على الرغم من أن كل الدراسات الجدّية قد أثبتت تراجعها في مختلف المجالات، ومن المشهد الديني خصوصاً، ليس في فرنسا فقط، ولكن في بلاد عرفت سابقاً تأثيراً كبيراً لهذه الجماعة. لقد استند محرّرا التقرير إلى شهادات من باحثين يمينيين متطرّفين لا مصداقية لهم في أوساطهم العلمية، محاولين إثبات خطر ما يعتبرونه اختراقاً إسلاميّاً للجمهورية الفرنسية.

من الطبيعي أن تعمد الحكومات، الفاشلة في الإدارة وفي الاقتصاد وفي سياسات الاندماج وفي إشاعة مناخ مؤاتٍ للتعايش، إلى حرف الأنظار نحو مشكلات وهمية ومخاطر متخيّلة، إلا أن إعجاز الحكومة الفرنسية فاق كل تصور.

Read Entire Article