ARTICLE AD BOX
تعدّدت مظاهر الاعتراف بالمكانة الحقيقية التي يحتلّها إبداع صنع الله إبراهيم في المتن الروائي المصري والعربي، خلال مسيرته الحافلة بالتحوّلات الفكرية والثقافية والسياسية. وكان أبرز هذه المظاهر ما حدث عام 2003، حين رفض جائزة ملتقى الرواية العربية الثاني المنعقد في القاهرة، احتجاجاً على ما وصفه بحالة الهوان التي بلغتها مصر تحت حكم الرئيس المصري الراحل حسني مبارك. وقد لخّص صنع الله إبراهيم هذا الهوان أمام الحاضرين في دار الأوبرا، عقب إعلان فوزه بالجائزة من قبل الروائي السوداني الطيب صالح، قائلاً: "في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرّد الآلاف، وتنفّذ، بدقّة منهجية واضحة، خطة لإبادة الشعب الفلسطيني. لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان".
الغريب أن هذه الكلمات التي قيلت قبل 22 عاماً، لا تزال سارية حتى اليوم! ندد البعض حينها برفض إبراهيم للجائزة، واتهموه بمحاولة عمل "شو" إعلامي، فيما تضامن آخرون معه. مهما يكن من أمر، كان رفضه للجائزة بذلك الشكل المدوي صفعة غير مسبوقة لدولة مبارك وتأكيداً آخر من صنع الله إبراهيم أنه لم ولن يهادن النظم القمعية أو الديكتاتورية، كما لو أراد بهذا الرفض أن يمتلك جرأة الطفل في الحكاية الشهيرة، حين صاح وسط الجميع قائلًا "الملك عار"، وقد فعل.
قُدِّر لجسد صنع الله إبراهيم، على هشاشته، أن يتحمّل ما لم يتحمله غيره من الأقوياء الأصحاء. وتكفي تجربة اعتقاله خمس سنوات كاملة لتجعلنا ننظر مرتين إلى جسده الضئيل، الذي يتعارض مع عينيه اليقظتين، ونتساءل كيف عبر جحيم المعتقل في الواحات، حيث مات عشرات منهم تحت التعذيب، وعلى رأسهم صديقه شهدي عطية.
لم تكن تجربة المعتقل وحدها هي التي صنعت من صنع الله إبراهيم كاتباً. فقبلها كانت طفولته الاستثنائية، كان عليه منذ يومه الأول أن يحمل اسماً غير مألوف، وقع تحت إصبع أبيه بالمصادفة وهو يستخير الله لتسمية وليده الذي جاء إلى الدنيا عام 1937، فكانت الآية رقم 88 من سورة النمل: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ"، إشارة للأب أن يكون اسم وليده "صنع الله".
ما إن يبدأ الطفل في الوعي بالعالم من حوله، حتى يكتشف أن والده قد تجاوز الستين، وأنه أقرب إلى هيئة الجد منه إلى صورة الأب. يدرك أيضاً أن له شقيقين من أبيه، من زواج سابق. في افتتاحية روايته التلصص (المستقبل العربي، 2007)، يرسم صنع الله إبراهيم ملامح الأب المُسنّ بلغة مشهدية دقيقة، قائلاً: "يتمهّل أبي في مدخل المنزل قبل أن نخطو إلى الحارة. يرفع يده إلى فمه، يتحسّس طرفي شاربه الرماديّ الملوّيين إلى أعلى. يتأكّد من أن طربوشه مائل قليلاً ناحية اليسار. ينزع سيجارته السوداء المطفأة من ركن فمه، ينفض رمادها عن صدر معطفه الأسود الثقيل، يبسط أساريره لتتلاشى تجاعيد جبهته، يرسم ابتسامة على شفتيه، يقبض على يدي اليسرى، ونتلمّس طريقنا في ضوء الغروب".
تتحول العلاقة التي تربط بين الأب وابنه إلى صداقة وتشجيع متواصل على مواصلة القراءة، إلى الدرجة التي يعتبر فيها صنع الله إبراهيم أن والده كان المدرسة الحقيقية التي تخرّج منها. يقول في افتتاحيّته لكتابه السيري "يوميات الواحات" (2005): "السجن هو جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلّمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمّل، وقرأت في مجالات متباينة، وفيه أيضاً قررت أن أكون كاتباً. أما أبي فهو المدرسة".
شكّل رفضه لجائزة ملتقى الرواية العربية صفعة لـ"دولة مبارك"
بموت الأب عام 1955، تتغيّر حياة صنع الله إبراهيم، ويبدأ في الانغماس أكثر فأكثر في العمل السياسي السري وتنظيمات الشيوعيين المصريين، بعدما أهمل دراسته في كلية الحقوق، ما يؤدي إلى اعتقاله في 1959 وبقائه في المعتقل حتى منتصف 1964. يصف الكاتب إحساسه البكر بيومياته السريعة التي دأب على كتابتها بعد خروجه من المعتقل، والتي شكّلت في ما بعد روايته الأولى "تلك الرائحة". في مقدمته للطبعة الثالثة للرواية (دار الهدى، 2003)، يقول: "كان ثمّة تيار خفي في ذلك الأسلوب التلغرافي الذي لا يتوقّف ليتمعّن، ولا يعنى بانتقاء المترادفات أو سلامة اللغة أو مداراة القبح الذي يصدم النفوس الحساسة".
هذه السطور تستعيد بشكل ما الهجوم العنيف الذي شنّه الكاتب المصري الراحل يحيى حقي على رواية "تلك الرائحة" بعد صدورها في 1966، إذ كتب في عموده الأسبوعي بجريدة المساء معبّراً عن نفوره من الرواية وتقزّزه من المشاهد الجنسية التي غرق فيها الراوي، حيث قال: "تقززت نفسي من هذا الوصف الفيزيولوجي تقززاً شديداً لم يبق لي ذرة من القدرة على تذوّق القصة رغم براعتها". لينهي حقي بجملته القاطعة: "إنني لا أهاجم أخلاقياتها (الرواية)، بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته، هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاته، وتجنيب القارئ تجرّع قبحه".
لا شك أن ذلك الهجوم الحاد من حقي ضد "تلك الرائحة"، جعل صنع الله إبراهيم يدرك منذ بدايته في عالم الكتابة درساً مهماً، وهو أنّه لن يكون بمقدوره إرضاء الجميع، وأن عليه أن يثق في الشكل الأرشيفي الذي اختاره لكتابته، والمُعتمد على الكتابة الراصدة لكل التفاصيل، المزوّدة بعشرات الوثائق والتصريحات والمواد الصحافية واليوميات، لتكون أساساً لفنه الروائي الذي كرسه لتأريخ مصر أدبياً إن صح لنا التعبير، على طريقة الجبرتي. إنه الأسلوب الذي سيتأكّد لاحقاً في أعمال روائية مثل "نجمة أغسطس" (1974)، و"اللجنة" (1981)، و"بيروت بيروت" (1984)، و"ذات" (1992)، و"شرف" (1997)، و"وردة" (2000)، و"أمريكانلي" (2003).
مع الألفية الجديدة، وبعد أن رفض صنع الله إبراهيم جائزة "دولة مبارك"، واصل الكتابة بالأسلوب التأريخي المعتمد على الأرشيف والصحف، ليقدم عدداً من أعماله السيرية والروائية، من بينها "يوميات الواحات" (2005)، و"العمامة والقبعة" (استخدم فيها شخصية الجبرتي الحقيقية كأحد شخصيات الرواية)، و"القانون الفرنسي" (2008)، محولاً مسيرته الروائية إلى ما يشبه أرشيفاً لتاريخ مصر المعاصر، بدءاً من الحملة الفرنسية وصولاً إلى لحظتنا العربية الراهنة.
اليوم، إذ يرقد الكاتب المصري صنع الله إبراهيم في أحد مستشفيات القاهرة، إثر إصابته بكسر في الحوض – هو الثاني خلال العامين الماضيين – أستعيد اللحظة التي وقعتُ فيها على أول عمل أدبي له. كان ذلك في صباح يوم بارد من ديسمبر/ كانون الأول 1996، في أحد المقاهي الجانبية بميدان باب اللوق في القاهرة، حين أهداني المترجم المصري الراحل بشير السباعي نسخته الخاصة من الطبعة الثانية لرواية "بيروت بيروت"، وقال لي: "تفضّل، اقرأ وتعلّم".
منذ الصفحة الأولى، تعلّقت بكتابة صنع الله إبراهيم، وبدأت أقرأ أعماله السابقة بأثر رجعي، وأتابع جديده أولاً بأول... وأتعلّم.
* شاعر ومترجم من مصر
