ARTICLE AD BOX
في ساحة بلا معالم واضحة، تتوقف عشرات الدراجات النارية عشوائياً، بينما تصطف على جانبها مبانٍ قديمة تتسلق تلّاً يُطل على الساحة، وتظهر بين الأبنية صفوف الأدراج المهملة التي تقود إلى البيوت والأحياء في الحي المعروف باسم حي البرانية في مدينة طرابلس اللبنانية، شمالي البلاد.
ويقول محمد عبد الكريم ياسين، المعروف بأبو العبد، صاحب مقهى في منطقة التل، إن هذه الساحة كانت تعج بالبسطات، وإن السلطات لطالما حاولت إخلاءها، حتى اندلع حريق غامض أدى إلى اختفاء معظم البسطات، ليضيف أن الساحة أُقيمت فوق نهر "أبو علي" الذي تمت تغطية جزء منه بشكل كامل، ما حرم المنطقة من متنفس طبيعي لأبنائها المحاصرين في الحارات الضيقة، وجرّدها من البرودة التي كان يشيعها النهر، خاصة في أيام الصيف اللاهبة.
على ضفة الساحة اليمنى، وتحت تجمّع مباني حي البرانية، كانت هناك مجموعة من الشبان يصفون المقاعد البلاستيكية أمام طاولة متواضعة، بجانبها جهازا مكبر صوت ضخمان، وفوقهما عُلقت لافتات تحمل أسماء وصور المرشحين للانتخابات البلدية المرتقبة يوم الأحد.
طرابلس: تفاؤل حذر بالانتخابات
في الأيام الأخيرة، كان الحديث عن الانتخابات البلدية يطغى على أحاديث أهالي طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، حيث تراوح الآراء بين السخرية والمرارة، وتغلب عليها الشكوى من أحوال المدينة والدعوة إلى انتخاب من يستحق، وسط أجواء تفاؤل حذر أشاعها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة يُنظر إليها بوصفها فرصة للإصلاح والتغيير، رغم أن التشاؤم سرعان ما يعود ليخيم على النقاشات، مستحضراً تجارب المدينة السابقة.
يتوزع المرشحون للبلدية في طرابلس على عدة لوائح أساسية، تحظى بدعم عائلات سياسية تتنافس على زعامة المدينة، وتعتبر الانتخابات البلدية اختباراً حقيقياً لشعبيتها، تمهيداً للانتخابات النيابية المقبلة. وفي هذا المشهد، تبرز أسماء مثل فيصل كرامي، وأشرف ريفي، وعبد الكريم كبارة، والأحباش، الذين يسعون إلى تشكيل لوائح توافقية، في ظل غياب تيار المستقبل (يتزعمه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري)، وتراجع حضور تيار العزم (يتزعمه رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي)، بينما يحاول المجتمع المدني أن يجد لنفسه موطئ قدم عبر لوائح مثل "حراس المدينة"، و"نسيج طرابلس"، رغم تشتته وضعف إمكانياته.
وبينما تراهن اللوائح السياسية على مؤيديها التاريخيين في المدينة، تحاول لوائح المجتمع المدني، البعيدة عن الزعامات التقليدية، كسب التأييد عن طريق تقديم برامج إنمائية، ومعارضة الأحزاب التقليدية، وبرغم خطابها الجديد نوعاً ما مقارنة باللوائح الأخرى، إلا أنها لم تستطع أن تشكل لائحة واحدة. ويرى الصحافي محمود النابلسي، عضو نقابة محرري الصحافة اللبنانية، أن وجود أكثر من لائحة للمجتمع المدني سيقلل من حظوظها. ويقول لـ"العربي الجديد": "هناك تنافس بين لوائح المجتمع المدني، لم يستطيعوا أن يتقدموا بلائحة واحدة، مما يعني أن الأصوات ستتوزع، وهذا سيقلل من حظوظهم".
ويشير النابلسي إلى أن نظام الانتخابات الحالي سيؤدي إلى مجلس بلدي مكوّن من "أعضاء ينتمون إلى عدة لوائح، وهذا يعني مجلساً غير متجانس، وستنتقل النزاعات والتنافس السياسي بين الأحزاب والزعامات إلى داخل المجلس، مما يقلل من فاعليته". ويرى أن قلة تفاعل الأهالي مع الانتخابات الحالية يعود في جزء منه إلى عدم تفاؤلهم بإمكانية التغيير، لأن "الصراع السياسي سينتقل إلى داخل المجالس البلدية، وبالتالي سيصيبها بالشلل، وحتى لو تمكن مستقلون من الوصول، فالأحزاب والزعامات ستسعى لضمهم إلى صفوفها".
من جهته، يقول المواطن اللبناني ابن طرابلس أبو العبد لـ"العربي الجديد": "هذه المدينة عظيمة، ولكنها تعرضت لظلم كبير"، في إشارة إلى عمق المعاناة التي تعيشها طرابلس، فالإهمال والعشوائية يطبعان وجه المدينة، حيث تتداخل الأزقة الضيقة مع الأبنية القديمة والدكاكين المنتشرة، وتزدحم الشوارع بالسيارات مع الدراجات النارية، في مشهد فوضوي يوحي بأن هناك قوة خفية ما تمنع وقوع الكوارث في كل لحظة، ومع كل سؤال عن اسم حي أو مبنى، تنفتح أمامك حكايات ذات جذور تاريخية، تروي كيف كانت المدينة وكيف أصبحت.
مدينة نابضة بالحياة رغم كل شيء
ومن حي البرانية، نتوجّه مع أبو العبد إلى منطقة التل "لا يمكن أن تقول إنك زرت طرابلس دون زيارة التل". وتتحول شوارع المنطقة المزدحمة برفقة أبو العبد إلى مجموعة من القصص عن هذا البناء أو ذاك، ففي منطقة التل يصارع التاريخ لإبراز ملامحه رغم الإهمال الذي طاول معظم الأبنية التاريخية. وعرفت هذه المنطقة تألقاً في أزمنة تبدو الآن بعيدة، حيث تُعتبر طرابلس من المدن التي تختزن بين جنباتها آثاراً تعود للحقبات العثمانية، والمملوكية، والفاطمية، وصولاً إلى الرومانية والبيزطية. ويقول أبو العبد: "التل كانت من أحلى مناطق المدينة، مليئة بالمطاعم وصالات السينما والفنادق والمسارح، وكان يقصدها أبناء المدينة وحتى أبناء بيروت". وفي نهاية الجولة، يقف أبو العبد أمام برج ساعة التل، ويقول بحرقة لا يحسن إخفاءها: "هذا برج ساعة التل، لكن كان يجب أن تراه في أيام العز". بُني البرج الشهير في عام 1901، بمناسبة مرور 25 عاماً على تولي السلطان عبد الحميد الثاني الحكم.
يؤمن أبناء طرابلس بمدينتهم، ويرون أن الإهمال الذي تعانيه مقصود من الدولة، ويلومون في ذلك رجالات السياسة من أبناء المدينة، الذين تعاقبوا على رئاسة الحكومة، وآخرهم نجيب ميقاتي، من دون أن ينجحوا في انتشالها من أزماتها المتراكمة. ويؤكد أبو العبد أن طرابلس، رغم كل التحديات، تظل مدينة نابضة بالحياة، تنتظر من يعيد إليها مكانتها، ويحقق لأبنائها ما يستحقونه من كرامة وعدالة وتنمية حقيقية.
