ARTICLE AD BOX
أثارت وقائع مغادرة طلاب محافظة السويداء للجامعات السورية والعودة إلى منازلهم جدلاً واسعاً، وسط تضارب الروايات عن الأسباب، في مشهد يعكس فصلاً جديداً من وجوه المعاناة السورية.
كشفت عودة طلاب محافظة السويداء عن فصل جديد من معاناة السوريين مع واقع التعليم تحت وطأة الأزمات الأمنية والمعيشية، وسط تضارب الروايات وتباين الآراء بين من اعتبرها خطوة لحمايتهم، ومن رأى فيها تراجعاً قسرياً عن حقهم في التعليم.
"لم نعد نذهب إلى الجامعةـ لأن مجرد وجودنا صار يعرضنا للاعتداء اللفظي والجسدي والنفسي"، بهذه العبارة وصف طالبٌ من السويداء، فضّل عدم ذكر اسمه، واقعَ زملائه الذين أجبروا على مغادرة جامعات دمشق وحلب وحمص، بعد تصاعد الاعتداءات التي بلغت ذروتها في 28 إبريل/ نيسان الماضي، بحسب وصفه، بعد قيام عددٍ من الطلبة بإطلاق هتافات تحريضية ضد طلاب من أبناء محافظة السويداء وسط ساحة السكن الجامعي في حمص، ليتطوّر الأمر إلى هجوم بالأيدي والأسلحة البيضاء والعصي على غرف الطلبة من أبناء السويداء مع إطلاق الشتائم الطائفية بحقهم، وذلك على خلفية مقطع صوتي مفبرك طاول النبي محمد.
ويوم الأربعاء الماضي، وصلت حافلات تقلّ نحو 308 طلاب من جامعات حلب وحدها في عملية إجلاء جماعي، بينهم طالبٌ تعرّض للطعن بسكين، فيما اضطر مئات آخرون خلال الأسبوعين الأخيرين إلى الانسحاب من جامعات دمشق واللاذقية وحماة، خوفاً من أي تهديد.
أجبر طلاب سوريون على مغادرة جامعاتهم بعد تصاعد الاعتداءات
وفي مقابل روايات الطلاب، نفت وسائل إعلام تابعة وموالية للسلطة السورية حدوث أي إجلاء قسري، وحمّلت الطلابَ مسؤولية مغادرتهم، مدّعيةً أن الأمر "توجيه سياسي من شيخ الطائفة". كذلك نفى عماد الأيوبي، مدير المدينة الجامعية في دمشق، صحة فيديوهات متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي عن عمليات ترحيل طلاب محافظة السويداء من المدينة الجامعية في المزة، واصفاً إياها بأنها "مسجَّلة قبل عشرة أيام"، مؤكداً أن المغادرة كانت "بطلب منهم". لكن هذه الرواية تتعارض مع شهادة وحيد طالب الطب الذي فضل عدم ذكر اسمه كاملاً، والذي ادعى أنه أمضى أياماً محتجزاً في مهاجع بحراسة الأمن العام.
فيما نفى وزير التعليم العالي مروان الحلبي، في تصريحات نقلتها عنه وسائل الإعلام الرسمية، خبر إجلاء الطلاب، قائلاً إن مقاطع الفيديو قديمة ولا تعكس الواقع الحالي، والأوضاع داخل السكن الطلابي تسير على نحو طبيعي وهادئ، والعلاقة بين الطلبة في المدن الجامعية يسودها التفاهم والتوافق الأهلي. فيما أكد وزير الإعلام حمزة المصطفى، عبر صفحته الشخصية، أن الحلبي أكد في اتصال هاتفي معه رفضه المطلق لاستخدام الحرم الجامعي كمنصة للتجييش الطائفي أو المساس بالسلم الأهلي، وأنه سيحاسب المخالفين، كما سيتعاون مع محافظ السويداء ووزارة الداخلية لإعادة الطلاب إلى جامعاتهم وحمايتهم.
من جانبه، صرّح محافظ السويداء مصطفى البكور، في حديث تلفزيوني، أن المحافظة تقف بحزم لحماية الطلاب كـ"أمانة وطنية"، مؤكداً تنسيقه المباشر مع وزير التعليم العالي لضمان حقوق الطلاب وكرامتهم ومنع أي انتهاكات ضدهم، مع الإعلان عن تعويض الفاقد التعليمي للمتضررين. ودعا البكور وسائل الإعلام إلى تحري الدقة وعدم ترويج الإشاعات، مُعلناً فتح أبواب المحافظة لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لضمان أمن الطلاب.
يتجلى التناقض الرسمي أيضاً في التعامل مع المطالب الطلابية. فبينما تقدم أكاديميون، مثل الدكتور أكرم أبو عمر، بمقترحاتٍ عملية، من بينها إجراء الامتحانات داخل السويداء أو تفعيل التعليم الإلكتروني، لم تتحرك وزارة التعليم العالي إلا بتصريحاتٍ فضفاضة، في حين أن طلاباً في جامعات خاصة خارج المحافظة، باتوا يواجهون خسارة فصلٍ دراسي كامل بسبب غيابٍ قسري تجاوز الحد المعقول دون أي تسهيلات.
"لهجتي صارت تهمة، وانتمائي أصبح مبرراً للعداء"، تقول دارين؛ طالبة عادت إلى الدراسة بعد انقطاعٍ قسري بسبب مواقفها المناهضة للنظام السابق. المشهد الذي تصفه ليس استثناءً؛ فالتنميط الطائفي تحوّل إلى عنفٍ ممنهج. ففي حلب، تعرّض طلاب السويداء لحصار داخل وحدات سكنية مغلقة تحت حراسة أمنية، بعد مظاهرات طائفية وتهديداتٍ عبر وسائل التواصل. وفي دمشق، وصل الأمر إلى حدّ تداول أخبار كاذبة عن مقتل طالب درزي، ما زاد من حالة الذعر.
التمييز لم يقتصر على الجامعات الحكومية. ففي الجامعات الخاصة، مثل "الرشيد" و"الدولية" و"غباغب"، اضطرت الإدارات إلى تقديم وعودٍ غير مضمونة بامتحانات استدراكية، بعد أن دفع الطلاب مبالغَ طائلة لتسجيلهم وصلت إلى 12 مليون ليرة سورية، إذ تبرز إشكالية أخرى تحوّل التعليم إلى سلعةٍ تُدار بعقلية السوق، وتُهمَّش الاعتبارات الإنسانية لصالح الربح.
من جهته يقول الناشط المدني محمد العمر من ريف دمشق في حديث لـ "العربي الجديد" إن "الجامعات منشآت علمية، وأمنها مسؤولية الدولة"، في إشارةٍ منه إلى تقاعس السلطات عن حماية الطلاب جدياً من خلال اتخاذ إجراءات رادعة للمسيئين. فبحسب الناشط فإن وزارتي الداخلية والتعليم العالي لم تحركا ساكناً إزاء خطاب الكراهية الذي انتشر على منصات التواصل، وفي ساحات الجامعات والمدن الجامعية. معتبراً أن هذا الصمت يُقرأ في سياقٍ أوسع؛ فالسلطة السورية الجديدة، التي مثّلت نفسها حامياً لكافة مكونات الشعب السوري، تبدو عاجزة أو غير راغبة في كبح جماح الأصوات الطائفية في الجامعات وعلى منصات التواصل.
وفي هذا السياق، أصدر طلاب السويداء بياناً شجبوا فيه ما اعتبروه تقاعس الدولة عن ضبط المخالفات في الجامعات السورية والتي باتت بحسب تعبيرهم غير محتملة. وقالوا في البيان "عندما تغادر مقعدك الجامعي مضطراً، لن تعود إليه غداً مؤمناً بالوطن". تُلخّص هذه العبارة تداعيات الأزمة على مستقبل سورية. فمغادرة الطلاب جامعاتهم لا تعني خسارة عامٍ دراسي فحسب، بل تُعمّق الشرخ المجتمعي وتُغذّي النزعة الانفصالية لدى مكونات شعرت بالتهميش. وختم طلاب السويداء بيانهم بالقول "نُطالب بحقنا في الأمان قبل التعليم، وبالتعليم دون خوف". "كيف نؤمن بوطنٍ يُجبرنا على الهروب من مقاعد الدراسة؟"، تساءل أحد هؤلاء الطلاب في حديث لـ "العربي الجديد"، مشيراً إلى أن "الخذلان يشبه النزوح من الوطن ذاته".
وفي مقابل العجز الرسمي، برزت محاولاتٌ فردية لتخفيف الأزمة. فناشطون مثل عبد الرحمن كحيل، وطلاب من مختلف المحافظات، حاولوا حماية زملائهم، بشهادات تداولها طلاب من السويداء. بينما طالب أكاديميون بخطواتٍ عملية، مثل تفعيل القوانين التي تجرّم التحريض الطائفي. لكن هذه الجهات تظل هشة.
ويقول الأستاذ الجامعي ربيع الدبس لـ "العربي الجديد" إن "المشهد الأكثر قتامةً يتمثل في تحوُّل الجامعات التي يفترض أن تكون مناراتٍ للعلم إلى ساحاتٍ لتصفية الحسابات الطائفية. هذا الوضع لا يهدد مستقبل التعليم فحسب، بل يدفع نحو تكريس جيلٍ مقطوع الجذور، لا يؤمن بفكرة الوطن الجامع".
ويرى الدبس أن "الحل الجذري يتطلب أكثر من قراراتٍ إدارية؛ بل يحتاج إلى مراجعةٍ شاملة لعقدٍ من السياسات التي حوّلت سورية إلى غابةٍ من الكانتونات الطائفية. لكن حتى ذلك الحين، تبقى أصوات الطلاب، الذين يحملون أقلامهم ودفاترهم وأحلامهم، شاهدةً على إصرارٍ قد يمنح الأمل بوطنٍ لا يموت".
يقول الطالب عمرو المحيثاوي لـ "العربي الجديد": إن "هناك أذى نفسياً تعرض له طلاب السويداء من زملائهم"، مشيراً إلى أنه لا يمكن علاجه بقرار أو قانون، وهذا يحتاج لموقف عام من الزملاء من أبناء باقي الطوائف في سورية ومن هيئات التعليم العالي والوزارة. ويضيف: "بكل تأكيد لا نريد اعتذاراً بل وقفة حقيقية ترتقي بالجامعات ومؤسسات التعليم العالي فوق الاعتبارات الطائفية والعقائدية. ولا بد من أن يدرك الجميع خطورة إدخال التشدد والتحريض إلى داخل المنابر العلمية. هذا يجب أن يتم بالتوازي مع فرض قانون صارم وصريح يمنع التحريض والتجييش والتفرقة الدينية والطائفية، ويعاقب على نبذ الآخر بسبب دينه أو طائفته أو منطقته. ننتظر من شركائنا وزملائنا في المعاهد والجامعات السورية وقفةً حقيقيةً تساهم بإعادة اللحمة الوطنية ونبذ خطاب الكراهية والتحريض بين الطلبة".
بالمقابل، فقد ذكر العديد من الطلبة العائدين الكثير من المواقف التي تثبت أن البناء الحقيقي لسورية يبدأ من العلم، وأفاد طلبة حمص أن غرف الطلاب في السكن الجامعي كانت ملجأ لطلبة السويداء، فيما أكد عدة طلبة عائدون من حلب وقوف أهالي المدينة معهم، ومحاولة التخفيف عنهم، ومساعدتهم مادياً ومعنوياً. وأوضحوا أن أفراد الأمن العام سهروا على حمايتهم، ورافقوهم في رحلة إجلائهم.
