"عائشة لا تستطيع الطيران" في قاهرة الغربة

20 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

<p class="rtejustify">عمل مميز ينطوي على عناصر ستحول دون عرضه في كثير من الدول العربية (الخدمة الإعلامية)</p>

في هذه الدورة من مهرجان كان، الممتدة بين الـ13 والـ24 من مايو (أيار) الجاري، حيث عُرضت بضعة أفلام عربية بمستويات متفاوتة، يمكن تمييز "عائشة لا تستطيع الطيران"، باكورة الأعمال الروائية الطويلة للمخرج المصري مراد مصطفى الذي شارك في مسابقة "نظرة ما".

عمل مميز ينطوي على عدد من العناصر التي ستحول دون عرضه في كثير من الدول العربية، وفي مقدمها مصر التي سترى فيه، كالعادة، تشويهاً لصورة البلاد، على غرار ما حدث لـ"ريش" لعمر الزهيري، آخر فيلم مصري مهم عُرض في كان.

وجوه القاهرة المستثناة

من خلال ما يظهره من أحداث، يحمل الفيلم خطاباً سياسياً غير مقبول من السلطات، كاشفاً عن وجوه القاهرة التي كثيراً ما تُستثنى من السينما المصرية.

عائشة التي يحمل عنوان الفيلم اسمها شابة عشرينية سودانية تقيم في أحد أحياء العاصمة المكتظة، حيث تتواجه عصابات مصرية مع عصابات تتألف من مهاجرين أفارقة، سنراها تكافح من أجل البقاء، من دون أن تملك ترف الحلم أو حتى القدرة على الرفض، كل شيء مفروض عليها؛ حتى أمنها لا يتحقق إلا مقابل إسداء خدمات لمن يحميها.

 

الفيلم يبدأ بلقطة بسيطة لها وهي تكنس الغبار في شقة مطلة على ميدان التحرير، حيث تهتم بسيدة عجوز مريضة، لكن هذه البداية الصامتة تتكثف بسرعة إلى صرخة مكتومة تُنبئ بأننا أمام عمل ينتمي إلى الواقعية الاجتماعية بكل ملامحها، الكاميرا المحمولة، غياب الموسيقى التصويرية، الشخصيات الثانوية التي لا تقل أهمية عن الرئيسة، والعالم الذي لا يحاول المخرج تجميله، يحضر هذا كله مع رشة فانتازيا تأخذ الفيلم إلى مستوى آخر.

عائشة، صاحبة البنية القوية التي تؤدي دورها بهدوء لافت بوليانا سيمون، تنتقل بين منازل الغرباء لرعاية المسنين، علاقاتها متقطعة، وصمتها طويل، لكنه ليس فراغاً.

من خلال عينيها (لكل عين لون مختلف)، سنطل على وجه مغاير للقاهرة: عالمها السفلي، وجه لا تلمع فيه الأهرام ولا أماكن جذب السياح، بل تتراكم فيه الطبقات المُهملة من بشر تُركوا لمصيرهم.

يروي مراد مصطفى يوميات بقعة جغرافية من منظور مهاجرة، لا تُستَخدم كرمز أو استعارة، بل هي إنسانة بكل معنى الكلمة، مع صفاتها الحسنة وعيوبها، حتى لو لم يُفسَح لها المجال لتتكلم كثيراً لنعرف رأيها بما يحدث، هذا السكون هو ما يمنح الفيلم قوته، فالمَشاهد لا تُشرح، ولا تُزخرف.

ظالمة ومظلومة معاً

الكاميرا ترافق البطلة كما لو كانت تتنفس معها، تراقبها من الخلف في الشوارع، أو ترصد وجهها وهي تتلقى الإساءة من دون أن ترد.

في الجزء الثاني، مع دخول حيوان النعامة إلى السياق مفضياً عليه طابعاً سحرياً، تبدأ المرحلة الثانية من الفيلم، حيث نكتشف انتزاع إنسانية عائشة مع ظهور أول عوارض تحولها إلى الحيوان الذي تجد نفسها ذات ليلة في مواجهة معه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أحد أفضل قرارات الفيلم هو الامتناع التام عن الموسيقى التصويرية، وبدلاً منها نسمع هدير المدينة وزمامير السيارات، ومع الوقت تكاد هي أيضاً تصبح غير مسموعة، تماماً كما هي عائشة في الحياة.

هذه الأصوات تُشكّل خلفية موسيقية عضوية للواقع اليومي الذي على البطلة معايشته رغماً عنها.

هذا الخيار الجمالي يُعزز من شعور الغربة، المكان الذي لجأت إليه هرباً من الحرب في بلادها لا يُرحّب بها، لكنه لا يطردها أيضاً، يستنزف مَن يعيش فيه، من دون أن تعترف بذلك.

الثلاثيني مراد مصطفى، الذي نشأ في حي عين شمس بالقاهرة، ينقل تجربته الشخصية في الفيلم، لكنه يضعها في قالب لا يعكس الذات بل يُصور الآخر، هذا الآخر الذي هو في الوقت نفسه جزء لا يتجزأ من النسيج المصري، فالحي الذي كان يسكنه في طفولته بات مأهولاً بكثافة من مهاجرين أفارقة، لكن هذا الواقع لم يجد صداه في السينما المصرية التي كثيراً ما اختزلت غير المصريين في أدوار هامشية وكاريكاتورية، وتأتي هذه الرغبة في إعطاء هؤلاء غير المرئيين صوتاً وصورة، امتداداً لفيلمه القصير السابق، "عيسى"، الذي عُرض في كان قبل عامين.

 

ما يفعله مصطفى هنا هو إعادة توزيع الأدوار، جعل المهاجرة السودانية "بطلة"، ولو بطلة مضادة، بينما تنسحب الشخصيات المصرية إلى الخلفية أو تظهر كجزء من منظومة كاملة متكاملة، ظالمة ومظلومة في آن معاً، وفي الحالتين لا تعرف ذلك.

هذه المفارقة تُنتج ديناميكية غنية، تضع المُشاهد أمام مرآة مجتمع يرفض الاعتراف بالتغيير الحاصل فيه.

لا معجزات في الحياة

تواجه عائشة سلسلة من الانتهاكات التي تمارَس ضدها لأنها هشة وبلا سند، وحتى عندما تتلقى بعض المساعدة، كما في علاقتها مع الطاهي عبده، فإنها لا تأتي من موقع مساواة، بل من باب الشفقة أو المصلحة الموقتة.

الفيلم لا يمنحها لحظة انتصار، لا هرب، لا نهاية سعيدة، لا طيران في الأجواء، كما يؤكد عنوانه. استمرارية العذاب هذه لا تتشكل من أجل صدم المتفرج، بل لأنها الحقيقة كما يراها الفيلم، ليست هناك معجزات في حياة مثل حياة عائشة، ولا حلول سينمائية جاهزة، لكن على رغم ذلك، هناك كرامة لا تُنتزع من هذه الشخصية، كرامة مستترة تحت الغبار الذي تكنسه في بداية الفيلم، لكنها تظهر في كل مرة ترفض فيها الاستسلام الكامل.

في مقابلاته، يقول مصطفى إنه لا يكتب سيناريو تقليدياً، بل يركب اللقطة بصرياً في أثناء تخيله المشهد، هذه الطريقة في العمل تمنح الفيلم حيوية وصدقاً، وتُعطي الممثلين، وغالبيتهم من غير المحترفين، حرية التعبير التلقائي، والنتيجة هي أداءات غير مصطنعة، تنبع من التجربة أكثر من التلقين، مما يُضيف للفيلم صدقيته الخام.

مراد مصطفى في أولى تجاربه الطويلة الواعدة جداً، لا يقدم فيلماً عن الهجرة بقدر ما ينجزه عن الوجود في مكان لا يعترف بك، وعن البقاء من دون انتماء. عن امرأة، تُشبه كثيرات حولنا، غير مرئية في الواقع، وبطلة على الشاشة.

subtitle: 
أول تجربة سينمائية واعدة للمخرج المصري مراد مصطفى تشارك في مسابقة "نظرة ما" بمهرجان كان
publication date: 
السبت, مايو 24, 2025 - 17:15
Read Entire Article