عصرُ تنويرٍ جديد.. كيف يعيدُ الذكاء الإصطناعي تشكيل أسئلتنا الكبرى؟

13 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

فلاح حكمت اسحق*
لم يكن ديفيد دويتش David Deutsch مغالياً عندما جعل الفلسفة مفتاحاً بمستطاعه فكّ مغاليق الذكاء الإصطناعي(1). كثرةٌ من باحثي الذكاء الإصطناعي المرموقين هُمْ من قادة الفكر الفلسفي الراهن؛ بل أنّ بعضهم من مؤسسي الأنساق الفكرية المعاصرة. دويتش ذاته كتب كتاباً عام 1997 عنوانُه (نسيج الواقع The Fabric of Reality)، وهو مترجم إلى العربية، رأى فيه أنّ ما يسمّى الحقيقة Truth ليس سوى نسق تخليقي من أربع نظريات هي: النظرية الكمومية في إطار تفسير العوالم المتوازية، ونظرية المعرفة كما صاغها (كارل بوبر)، ونظرية الحوسبة التي إبتدعها (ألان تورنغ) وساهم دويتش لاحقاً في تطويرها لتكون حوسبة كمومية، ونظرية التطوّر الدارويني الإرتقائية في نسخها الثقافية والسوسيولوجية المحدّثة. إنّه منظور ثوري بلا شك هذا الذي يقدّمه دويتش في كتابه التأسيسي، وفيه يتقدّم دويتش الفيلسوف على كلّ من دويتش الرياضياتي والفيزيائي. استكمل دويتش مشروعه الفلسفي المثير في كتاب ثانٍ عنوانه (بداية اللانهاية The Beginning of Infinity) وهو مترجم إلى العربية أيضاً. أظنُّ أنّ مساهمة دويتش الفلسفية قلّما يجرؤ فيلسوف كلاسيكي على طرحها، وقد يكون هذا إيذاناً بأنّ فلاسفة عصرنا الحقيقيين هم المشتغلون في العلوم والتقنيات البينية المتداخلة: رياضيات وفيزياء وعلوم عصبية وعلم أحياء تطوّري ولغويات،،،، ولا أظنّ أنّ حقلاً بحثياً يمكن أن ينافس الذكاء الإصطناعي في قدرته على جمع هذه المباحث في نسق بحثي مشترك ومتفاعل بكيفية خلاقة. الذكاء الإصطناعي -باختصار- هو عنوان عصر التنوير الجديد للإنسانية.
الذكاء الإصطناعي أكبر من ثورة تقنية رابعة أو خامسة. هو أقربُ إلى عصر تنوير ثان لأنّه لا يقتصرُ على تطوير منتج مادي بل يتناولُ إعادة تأسيس مفاهيمي لبعض الكينونات التأصيلية للوجود البشري: مفهوم العقل والوعي والذاتية والحتمية والإرادة الحرّة وصناعة الأخلاقيات وحدود المسؤولية الأخلاقياتية. بهذه الكيفية يستلزم العمل في ميدان الذكاء الإصطناعي تحديد البوصلة الفلسفية التي ستحفّز الدافعية البحثية فيه. لا يمكنُ أنّ نتخيّل إنساناً محايداً من الناحية الفلسفية وهو يعمل في الذكاء الإصطناعي. قد يحصل هذا في ميادين بحثية أخرى؛ لكنّه لن ينجح مع الذكاء الإصطناعي، وأظنّ أنّ هذا هو السبب الذي جعل البحث الفلسفي الرصين والمعمّق يتداخل مع مباحث الذكاء الإصطناعيي على مستوى الدراسة الجامعية أو مستوى الفرق البحثية أو الذائقة المعرفية الفردية.
لن يخفى على المراقب المدقّق أنّنا في بيئتنا العربية نميلُ للإكتفاء الكسول بالتعامل مع المخرجات التقنية للذكاء الإصطناعي. هذه مثلبة ونقطة ضعف معيبة في سياسات الأمن الستراتيجي والإرتقاء الإقتصادي. هذا النمط من السلوك غير الميّال للمساهمة البحثية الجادة في تطوير مباحث الذكاء الإصطناعي ستترتّبُ عليه -بالضرورة- المخاطرةُ بالإنزواء نحو الهوامش القصية في صراع إستقطابي متوحّش لم نشهد لتغوّله مثيلاً في الثورات التقنية السابقة. في مقابل التعامل التقني السلبي هناك نمطٌ من الخوف والنفور من التعامل مع الذكاء الإصطناعي. يمكنُ إجمالُ هذا الخوف والنفور في عوامل عدّة منها: العامل اللاهوتي حيث يرى بعضنا في الذكاء الإصطناعي "إلهاً جديداً" يميلُ للإحتكاك الخشن بالمواضعات اللاهوتية التقليدية، وهناك أيضاً العامل الرغبوي حيث يخشى كثيرون من تسونامي الذكاء الإصطناعي أن يجتاح وظائفهم المريحة والمربحة معاً، أو أن يضطرّهم لإعادة تكييف مهاراتهم أو مواهبهم طبقاً للظروف المستجدّة. ثمّة أيضاً عامل الجهل أو نقصان المعرفة الحقيقية بماهية الذكاء الإصطناعي. هذا الجهل أو هذه المعرفة المنقوصة أو المشوّهة هما الباب المُفضي للنفور والتنكيل والكراهية، وقبل هذا والأهمّ هو الخوف من الذكاء الإصطناعي وتصويرُهُ وكأنّه فرانكشتاين الجديد، الثقب الأسود الذي سيلتهم البشر عمّا قريب. إلى جانب هذا ثمّة رؤية تفاؤلية مغالية في رؤيتها ترى الذكاء الإصطناعي وكأنّه الكأس المقدّسة التي ستجلب أطايب العيش للجميع وهم مسترخون على أرائكهم الوثيرة. شيء أقرب إلى بروميثيوس الذي لم يكتفِ بتهشيم قيوده بل لم يعُدُ يقبل بأقلّ من التحليق بعيداً عن مرمى البصر حتى لو كان يحلّق بأجنحة شمعية لن تقوى على الصمود أمام حرارة الشمس.
في هذا السياق المعرفي وتأسيساً على مفاعيله عمل الأستاذ الدكتور تحسين الشيخلي، أستاذ الهندسة الكهربائية وهندسة البرامجيات والذكاء الإصطناعي لسنوات عديدة في الجامعات العراقية، على تأليف ونشر عمل أظنّه غير مسبوق من حيث موضوعه وآلية تناول عناوينه. الكتاب بعنوان (كيف يعمل الذكاء الإصطناعي على إعادة تشكيل أسئلتنا الكبرى) وهو من منشورات الدار المصرية للطباعة والمطبوعات، ومنشور حديثاً عام 2025. لا بأس من التأكيد أنّ الدكتور الشيخلي حاول -بكثير من النجاح في كتابه هذا- تأكيد الأهمية الجوهرية للأسئلة الفلسفية الكبرى في نطاق الذكاء الإصطناعي، مترافقاً مع المحاولة الهادئة لتفكيك موارد الخوف الناجمة عن الجهل او نقص المعرفة بأساسيات عمل الذكاء الإصطناعي.
ربّما سبق لكثيرين منّا أن قرأوا نُتْفة هنا أو هناك عن موضوعة فلسفية مقترنة بالذكاء الإصطناعي؛ لكنّما كتابُ الدكتور الشيخلي يتمايز تمايزاً نوعياً عن هذه النُتَف. إنّه المحاولة الأولى لتقديم عمل يختصُّ بالفلسفة والذكاء الإصطناعي بعيداً عن التأمّلات الإنطباعية العابرة أو القراءات السياحية اليسيرة. الكتاب عالي الدسامة، ولن يخفى على القارئ المتمرّس أنّ إنضباطاً وصرامة مع فخامة فلسفية وفكرية هي العنوان الأجلى في الكتاب. صحيحٌ أنّ الكتاب يتطلّبُ قراءة دقيقة وانصرافاً نفسياً وروحياً وذهنياً كاملاً؛ لكنّ اللذة المعرفية المتوقّعة من قراءة موضوعاته ستتكفّلُ بتذليل كلّ المشقّات المتوقّعة. هذا بالطبع لمَنْ لم يسبق له قراءة مثل هذه النصوص الفلسفية الفخمة؛ أمّا مَنْ حاز قدراً من التمرّس فستكون القراءة في موضوعات الكتاب أقرب للإستغراق اللذيذ في حكايا الليالي الألف أو المسرحيات الشكسبيرية.
كثيراً ما حضَرَتْ في ذهني تلك العبارة الجميلة التي قالها يوهان بيرنوللي في سياق واقعة تاريخية معروفة:"أعرفُ الأسد من مخلبه I recognize the lion by his claw". كذلك يمكنُ معرفة المؤلف المتمرّس المكتنز معرفةً ونزاهة من سياق كتابته وهيكلية صياغته للعبارة، وفي عنايته بالخلفيات التاريخية والفلسفية لكلّ موضوع يتناوله. هذا ما نلمحه بكلّ وضوح في كتاب الدكتور الشيخلي. أوقنُ أنّ الكتاب لو كان مكتوباً بالإنكليزية لكان من الطبيعي للغاية أن نراه صادراً عن مطبعة جامعة أكسفورد أو كامبردج أو إحدى كبريات دور النشر غير الجامعية.
يبتدئ الدكتور الشيخلي كتابه بمقدّمة أنيقة موجزة تشي بموضوعات الكتاب. بداية المقدّمة هي ممّا يستثير القارئ ويضعه في قلب الإطار الدرامي للإشكالية الفلسفية للذكاء الإصطناعي:
"البداية، كانت سؤال الفلسفة في زمن التحول، ففي أحد أيام عام 2023، وبينما كان العالم منشغلاً بمناقشة إمكانات ChatGPT، طرحت سؤالاً بسيطاً على روبوت في القمة العالمية للذكاء الاصطناعي التي عقدت في لندن:)هل أنت واعٍ؟). كانت الإجابة مُحيّرة.)لا أمتلك وعياً؛ لكنني أستطيع محاكاة فهمك له(. هذه المحادثة العابرة تختزل جوهر الثورة التي نعيشها. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة، بل أصبح شريكاً في إعادة تعريف ما نعتقد أننا نعرفه عن الذكاء، الوعي، الأخلًاق، وحتى الإنسان نفسه".
ثم يواصل المؤلف التعريف بهيكلية الكتاب وكونه يتألف من ثلاث دوائر معرفية متحّدة المركز. من المثير أن يؤكّد المؤلّف في وقت مبكّر على المسعى الثوري لتورنغ في مبحث الذكاء الإصطناعي. يكتب المؤلف في هذا الشأن:
"لطالما شكّلت فكرة الذكاء الاصطناعي هاجساً فلسفياً قبل أن تكون تحدياً تقنياً؛ فمنذ أن طرح آلان تورنغ سؤاله الشهير) هل يمكن للآلة أن تفكر؟(عام 1950 ونحن نعيش في حوار متواصل بين الفلسفة والتقنية، بين الميتافيزيقا والخوارزميات. لكن اللحظة التاريخية الفارقة التي نعيشها اليوم تتمثل في أنّ الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد موضوع للنقاش الفلسفي، بل أصبح شريكاً في هذا النقاش، وربما مستقبلًاً سيصبح محوره الرئيسي."
يعقب مقدّمةَ المؤلف للكتاب موضوعان تأسيسيان: لماذا فلسفة الذكاء الإصطناعي؟، وكيف يغيّر الذكاء الإصطناعي طبيعة الأسئلة الفلسفية التقليدية؟. بعدها يتوزّع الكتاب في أجزاء ثلاثة: يتناول الجزء الأوّل منها الجذور الفلسفية للذكاء الإصطناعي. أنت هنا امام مائدة باذخة من الأسماء والعناوين والموضوعات التي ستقرأ فيها مثلاً: الفلسفة والعقل من ديكارت إلى تورنغ، الثنائية الديكارتية والعقل المادي، اختبار تورنغ وسؤال هل يمكن للآلة أن تفكّر؟، نقد سيرل: الغرفة الصينية وفجوة الوعي. بعد هذا يتناول المؤلف موضوعة الذكاء الآلي والبيولوجي، ثمّ يمرّ على نظريات الوعي لدى كلّ من الفيلسوفيْن دينيت وتشالمرز. أما الجزء الثاني فقد إختصّه المؤلف لموضوعة الذكاء الإصطناعي وإعادة صياغة الأسئلة الكبرى، وفيه سنقرأ عناوين مثيرة، هاكم البعض القليل منها: هل تمتلك الآلات إرادة حرّة؟، أسئلة الخلق والخلود في عصر الذكاء الإصطناعي، كيف يغيّر الذكاء الإصطناعي مفهوم الحقيقة، الأخلاق الخوارزمية. الجزء الثالث من الكتاب شاء له المؤلف أن يتناول تحدّيات ومستقبل الذكاء الإصطناعي. سنقرأ فيه عن المخاطر الوجودية التي تهدّد البشرية، وسيناريوهات نك بوستروم وإيلون ماسك، وهل سيؤدّي الذكاء الإصطناعي إلى يوتوبيا أم ديستوبيا؟ ثمّ يتناول المؤلف بتخصيص مشهود موضوعة ما بعد الإنسانية Post-Humanism. بعد هذه الأجزاء الثلاثة يقدّم المؤلف خاتمة ثرية هي بمثابة مراجعة مثيرة لموضوعات الكتاب، تعقبها قائمةٌ ممتازة بأحدث المراجع والدراسات، ثمّ إرتأى المؤلف في إلتفاتة محمودة أن ينهي الكتاب بمجموعة مقابلات مع خبراء في الفلسفة والذكاء الإصطناعي.
لم يكن أمراً غريباً أو مفاجئاً أن يُقدِمَ الدكتور الشيخلي على تأليف هذا الكتاب الفخم لأنّ سلسلة منشوراته التي يواظب على نشرها في صفحته الفيسبوكية تتّفق مع روح وموضوعات هذا الكتاب، وهي في مجملها تتناغم مع ذائقة الشيخلي الفلسفية ورغبته الجامحة في الإستكشاف والدراسة والإهتمام بطرح الأسئلة المناسبة أكثر من التلذّذ بالإجابات المقفلة الناجزة.
أملي كبير أن يحقق كتاب الدكتور الشيخلي انتشاراً كبيراً ومقروئية واسعة بين أوساط القرّاء جامعيين كانوا أم قرّاء شغوفين بالمستجدّات العلمية والتقنية التي صارت العنوان الأكبر لعصرنا.
1. عنوان مقالة دويتش المنشورة في الغارديان البريطانية بتأريخ 3 أكتوبر 2012 هو:
Philosophy will be the key that unlocks artificial intelligence
* كاتب ومهندس عراقي

The post عصرُ تنويرٍ جديد.. كيف يعيدُ الذكاء الإصطناعي تشكيل أسئلتنا الكبرى؟ appeared first on جريدة المدى.

Read Entire Article