عن إعادة تموقع سورية في الإقليم

5 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

قرَّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سورية، قبل لقائه الرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، استجابةً لمطلب ولي العهد السعودي محمّد بن سلمان، وجهود كلٍّ من تركيا وقطر والإمارات وبريطانيا، وبدعم فرنسي كبير. ورغم التباس موقف الكونغرس الأميركي تجاه هذا الشأن بسبب سوء معالجة الحكومة ملفَّي الساحل والجنوب السوري، وبسبب الخلفية الجهادية للحكّام الجُدد، إلا أن عودة ترامب من الخليج العربي إلى البيت الأبيض منتصراً ومحمّلاً باتفاقات بمئات مليارات الدولارات كفيلة بتمرير استثناءٍ أوَّلي يسمح بجذب الاستثمارات إلى سورية وإعادة عجلة الاقتصاد، وصولاً إلى رفع معظم العقوبات.
فرضت واشنطن العقوبات على سورية، وأبرزها قانون قيصر، لمعاقبة نظام بشار الأسد على جرائمه ضدّ السوريين، وأرادت بها منع روسيا وإيران من الاستفادة من سياستهما الداعمة نظام الأسد. ورغم دورها في إنهاء تلك الحقبة، لم تكن تلك العقوبات منصفةً بحقّ السوريين، فليس من المنطق أن تُعاقِب نظاماً على جرائمه بفرض عقوباتٍ على مؤسّسات الدولة أدّت إلى تجويع الشعب، فيما استمرّ الأسد ومقرّبوه بجني الأرباح غير المشروعة. وجاء قرار ترامب اليوم ضمن صفقة تجارية وأمنية أميركية خليجية تعطي دوراً رائداً للسعودية في إعادة تشكيل المنطقة بعد إنهاء النفوذ الإيراني، وإعطاء أدوارٍ متوازنة لكلٍّ من تركيا والسعودية، إذ يلعب موقع سورية الاستراتيجي أهميةً كبيرةً في هذه الخريطة. وسورية اليوم منهكة ومقسّمة، وسلطة الرئيس أحمد الشرع ضعيفة وغير مسيطرة، ومثقلة داخلياً بإرثها السلفي الجهادي، ومنذ وصوله إلى دمشق، تردَّد على لسان الشرع وباقي المسؤولين أن سورية لن تكون منصَّة تهديد لدول الجوار.

مبادرات عربية سعت إلى إعادة سورية إلى الحضن العربي، ووافقت وشنطن بانتظار خطوة مقابلة من الأسد الذي فشل وأوشك على الانهيار

لافت أنه بعكس زيارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن إلى المنطقة في النصف الثاني من عام 2022، لم يزر ترامب، رجل الصفقات الكبرى، تلّ أبيب، ما يعكس حجم الخلاف بينه وبين بنيامين نتنياهو، ورغبته في إحداث توازن عربي تركي في مواجهة طموحات حكومة الأخير في المزيد من التهديدات لأمن المنطقة، من دون التردّد في منح الكيان الإسرائيلي كلّ الدعم في مشروعه لتدمير غزّة و"تطهيرها" من حركة حماس، على حدّ تعبير وزير ماليّته بتسلئيل سموتريتش، الذي ربط أيضاً بين أمن إسرائيل وتقسيم سورية. وباستثناء غزّة، التي يريدها ترامب "منطقةً حرّةً"، حسب قوله، وغياب التوافق العربي في إيقاف الحرب فيها، فإن الرجل يسعى إلى إيقاف الحروب كلّها، والقيام برحلات فارهة لإجراء صفقات ضخمة. على ذلك، استطاع كلٌّ من الرئيس التركي أردوغان ووولي العهد السعودي محمد بن سلمان إقناعه بالمراهنة على إعطاء كل الدَّعم للشرع لتحقيق المصالح الأميركية في سورية، التي تتلاقى مع مصالح الدول العربية، ومنها الأردن وقطر والإمارات، حول إنهاء ملفّ النفوذ الإيراني، وتجارة الكبتاغون، وضبط الحدود، واستقرار سورية، وتدفّق الاستثمارات.
في سنوات حكم الأسد الأخيرة، كانت هناك مبادرات عربية تسعى إلى إعادة سورية إلى الحضن العربي، وإبعادها عن إيران، ومحاربة تجارة المخدّرات، ووافقت واشنطن على تلك الخطوة بانتظار خطوة مقابلة من الأسد، الذي فشل وكان على وشك الانهيار. وكان الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان قد انضم إلى قطار إعادة العلاقات مع الأسد، لأسباب داخلية تتعلّق بعودة اللاجئين إلى سورية، الأمر الذي رفضه الأسد تعجرفاً وسوء تقدير. بعد سقوط الأخير، باتت الفرصة مؤاتيةً لتلك العودة السورية إلى الحضن العربي، بوجود سلطة وليدة تحاول ترتيب بيتها الداخلي، وقد أحسنت العمل بالإسراع إلى فتح علاقات مع دول الخليج ودول الجوار العربية، وهنا تأتي الخطوة الأميركية برفع العقوبات عن سورية دفعةً إلى الأمام، لتمكين السوريين من تحقيق الاستقرار الداخلي، وتحقيق المطالب الأميركية.
جاءت تلك المطالب على لسان المتحدِّثة باسم البيت البيض كارولين ليفينت خلال زيارة ترامب إلى الرياض، وتتقاطع مع الشروط الأميركية السابقة، خاصّة ما يتعلق بطرد المقاتلين الأجانب، والمساعدة في منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومعالجة مراكز الاعتقال التي تخصّ التنظيم، وقد أضيف إليها ترحيل الفصائل الفلسطينية التي وُصفت بالإرهابية، ودعوة دمشق إلى الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية. يبدو أن المطلب الأخير جزء مهم من ترتيب إعادة التموضع السوري الجديد، إذ أجاب الشرعُ ترامبَ بـ"نعم" (بحسب الأخير) من دون أن يذكر الحقوق السورية باستعادة الجولان المحتلّ وفق القرارات الأممية، وقد رُفع العلم السوري الجديد فوق تلك الأراضي تعبيراً عن رغبة السوريين هناك باستعادته. ولم يأتِ الشرع على ذكر التجاوزات الإسرائيلية أخيراً باحتلال مناطق في العمق السوري تتجاوز خطّ فكّ الاشتباك لعام 1974، والضربات الإسرائيلية التي دمَّرت كلّ مقدرات الجيش السوري، وهدّدت الرئيس في قصره.
هناك من يرى أن درجة إنهاك السوريين تمنع حكومتهم حتى من العمل الدبلوماسي، وتقديم الشكوى في المحافل الدولية لوقف الاعتداءات الإسرائيلية، وهذا استنتاج خاطئ، لا يدرك خطورة الاستباحة الإسرائيلية للأراضي السورية بحجّة تولّي تنظيم ذي ماضٍ جهادي الحكمَ. ودولة الاحتلال أرادت ألّا تفوّت فرصة الضعف السوري لإثبات تفوّقها العسكري على دول الجوار، ولمنع بناء قدراتها العسكرية، ولاحتلال المناطق العازلة عملاً استباقياً لأيّ تهديد جديد، ولمنع ظهور نظام سوري قوي، إضافة إلى الحدّ من تهديد النفوذ التركي المتصاعد، وهذا يعني أن دولة الاحتلال تتعامل بوصفها دولةَ "بلطجةٍ" في المنطقة، بمباركة أميركية وأوروبية. في كلّ الأحوال، من المبكر القول إن سورية ستنضمّ إلى الاتفاقات الإبراهيمية، فالسلطة غير مكتملة، وما زالت في المرحلة الانتقالية، إلا أن الموافقة المبدئية من الحكومة السورية من دون استعادة الحقوق والاعتراف بتلك الانتهاكات والتَّعويض عنها ليست الخيار الإجباري للشرع.

الاستناد إلى الشرعية الداخلية سيقوّي أوراق الشرع لتشكيل موقف عربي ضاغط يندّد بالانتهاكات الإسرائيلية في سورية

الاستناد إلى الشرعية الداخلية سيقوّي أوراق الشرع لتشكيل موقف عربي ضاغط يندّد بالانتهاكات الإسرائيلية في سورية، ويقوّي قدرة الدولة على الاستفادة من تلك الفرص التاريخية كلّها التي تُعطى للسوريين. هذا يعني أنه من الحصافة حسن التصرف، وإعادة النظر في كلّ السياسات التي اتَّبعها الشرع، وتوسيع المشاركة السياسية، وبناء دولة المواطنة للسوريين كلّهم، بدلاً من توجيه سهام التخوين إلى الطوائف والأعراق، وقد ردّد السوريون المحتفلون برفع العقوبات في مختلف المحافظات السورية شعارات تندّد بالطائفية تعبيراً عن رغبتهم في الانتقال إلى مرحلة جديدة يسودها الاستقرار. ومن الجدير ذكره أن تجارب دول مماثلة لم تنجح في النهوض بالوضع المعيشي والخدمي لمواطنيها بسبب تفشّي الفساد وتغييب دور الدولة. والتصريحات الحكومية كلّها تقول باقتصاد السوق الحرّ شعاراً للمرحلة، من دون تحديد الهدف من تلك السياسات الاقتصادية، هل هي تنموية تخدم طبقات اجتماعية متوسّطة ودنيا، هي في أشدّ الحاجة إلى تحسين أوضاعها، وبناء منازلها المهدّمة، وهذا يستدعي قدراً كبيراً من تدخّل الدولة؟ أم هو اقتصاد حرّ منفلت يخدم طبقة أوليغارشية احتكارية جديدة وحسب، وفاسدة بالضرورة، في ظلّ غياب تشريعات تضمن حرية العمل النقابي والحزبي؟

Read Entire Article