عن رفات جنود إسرائيليين في سورية

1 week ago 6
ARTICLE AD BOX

لم تكن تفصلني سوى خطوات قليلة عن السور الجنوبي لمقبرة الشهداء (المقبرة القديمة) الواقعة في حي المغاربة، جنوب شرقي مخيّم اليرموك. ما زلت أذكر تلك الليلة (1998)، حين خرجت من منزلي قرابة الساعة التاسعة قاصداً محلّ بقالة قبالة السور. فوجئت بعناصر أمن عسكري يسدّون الطريق ويطلبون مني العودة. في دقائق، تجمهر عدد من الجيران. علمت (وغيري) أن رجال الأمن طوّقوا المقبرة، وغطّوا سماءها بسواتر من قماش. أحد الجيران نقل عن قريبٍ له، بين العناصر التي طوّقت المقبرة حذّره من الاقتراب أكثر، أنهم يستخرجون رفات جندي إسرائيلي. انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وأصبح حديث بيوت المخيّم، لكن صحيفة لبنانية نشرت صبيحة اليوم التالي خبراً مقتضباً مفاده: الأمن السوري ينبش رفات الطيار الإسرائيلي رون أراد (!) الذي كان حديث وسائل الإعلام في حينه.
أنعشت تلك الحادثة ذاكرة المخيّم، فعادت بأصحابها إلى 1982، حين اخترقت شوارعَ المخيّم دبابةٌ (مغاح 3) إسرائيلية قدمت من لبنان، فوقها جُثَّتا جنديَّين إسرائيليين سار خلفهما أبناء المخيّم مهلّلين هاتفين، ومعها استعادت الذاكرة ما يقال إنه وعيد آرييل شارون لأبناء المخيّم: "لك يوم يا مخيّم اليرموك".
زخاريا باومل وتسيفي فلدمان ويهودا كاتس، ثلاثة جنود إسرائيليين أُسروا (قتلى أو أحياء) في معركة السلطان يعقوب في البقاع اللبناني (10/6/1982)، حين نصبت قوّة من الجيش السوري، تساندها قوات فلسطينية ولبنانية، كميناً محكماً لكتيبتَي دبابات إسرائيليّتَين حاولتا التقدّم لاحتلال طريق بيروت دمشق. انتهت المعركة بهزيمة إسرائيلية موجعة. كان الجنود الثلاثة طاقم الدبابة التي أصبحت واحدةً من غنائم المعركة، وسلّمها النظام السوري لاحقاً للاتحاد السوفيتي لفحصها، بما أنها نسخة معدّلة من الدبابة "M48" الأميركية، ليعيدها فلاديمير بوتين إلى نتنياهو في 2016.
لم تكفّ إسرائيل بحثاً عن رفات جنودها، وأخبرني أصدقاء حوصروا في المخيّم، أنه خلال سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) (2015 - 2018)، وحتّى قبلها بعام، شهدت المقبرة نشاطاً مشبوهاً، واستاء الأهالي غير مرّة ممّا اعتبروه تعدّياً على حرمة الموتى، غير مصدّقين ادّعاءات العناصر المسلّحة بأنهم يبحثون عن أسلحة ومتفجّرات دُفنت في المقبرة، بل اقتحم مجهولون منزل مدير الدائرة السياسية في منظّمة التحرير، أنور عبد الهادي، بحثاً عن تصاميم ومخطّطات هندسية للمقبرة، ورُصدت عمليات تهريب (فردية) لعيّنات من تربة المقبرة إلى خارج المخيّم، مقابل مبالغ مالية. وفي أواسط مارس/ آذار 2019، طوّقت القوات الروسية المخيّم، وتكفّلت وسائلها المتطوّرة طوال أسبوع بما عجزت عنه أدوات داعش البدائية، فأرسلت مجموعة من الرفات إلى إسرائيل لتعثر مَخابرُها على رفات زخاريا باومل.
أعلنت إسرائيل (الأحد) أنها استعادت رفات جثّة تسفي فلدمان بعد عملية خاصّة، في مكان ما بسورية (قالت إنه ليس مخيّم اليرموك)، ومن دون تعاون مع السلطات السورية الجديدة، لكن يبدو أن تلك واحدة من العنتريّات الإسرائيلية، على غرار عملية خاصّة مزعومة لاسترجاع ساعة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين من سورية في 2018، اتّضح أن إسرائيل اشترتها من مزاد في الإنترنت.
ينفي المسار الراهن في سورية فرضية العملية الخاصّة، ويرجّح فرضية الصفقة، بعد أن خطّ الرئيس السوري أحمد الشرع مساراً تفاوضياً مع الاحتلال غير مباشر، ويحتاج التقدّم فيه حتى "التوصّل إلى التهدئة" (بحسب وصف الشرع)، تعاوناً أمنياً، وغيره من خدمات. ولعلّ التحقيق مع الأمين العام للجبهة الشعبية - القيادة العامة، طلال ناجي (واحد من الرعيل القيادي الفلسطيني القديم، الذي بيده مفاتيح ملفّات فلسطينية كثيرة، ناهيك عن تاريخ من علاقات أمنية وثيقة مع النظام البائد) على صلة بالقضية.
وفي ظلّ تخليه عن المحتجزين الإسرائيليين في غزّة لمصلحة استمرار الحرب، فإن نتنياهو أحوج ما يكون لصفقات مع الشرع، تعيد رفات مَن تبقّى من جنوده في سورية، ولم يكن مفاجئاً أن يصرّح مسؤول أمني إسرائيلي بأن اتصالات جرت مع السوريين لإعادة جثّة الجاسوس إيلي كوهين، والمرجّح أن يستمرّ البحث في سورية عن رفات يهودا كاتس وإيلي كوهين (وربّما أرون أراد؟) بصفقات مضمرة ومعلنة.

Read Entire Article