عن زيارة ترامب إلى الخليج والسيدة العجوز

1 day ago 3
ARTICLE AD BOX

قليل منا في الوطن العربي من يعرف عن الإنتاج الأدبي السويسري. ولكن واحدا من كتاب المسرحيات والقصصيين البارزين كان اسمه فريدريش دورمانت Frederich Dürremmente، الذي كانت "الزيارة" واحدة من أهم مسرحياته السياسية الساخرة المعروفة. وفي العام 1964، تحولت المسرحية إلى فيلم سينمائي من بطولة إنغريد بيرغمان وأنتوني كوين.

قصة "الزيارة" المسرحية تحكي عن سيرة عجوز ثرية تعود بعد غياب عقود عن قريتها من أجل أن تنتقم لنفسها من عشيق سابق لها حملت منه بطفلة، ولكنه تآمر عليها بالاتفاق مع عمدة تلك القرية وبعض مساعديه، وتحملت وزر حملها وفقدان سمعتها وغادرت القرية مطرودة. ولما عادت، طرحت مكافأة قدرها مليونا دولار لمن يقتل عشيقها السابق الذي بدأ يشعر أنه أذنب بحقها، وأدرك أن أهل القرية قد خذلوه وتركوه وصاروا يريدون قتله. ولما كاد يقتل وسط ميدان القرية من أهلها، طلبت منهم أن يتوقفوا وتركت والد طفلتها ليعيش الحيرة والخيبة والمرارة التي عانت منها قبل عقود. ومن ثم تترك القرية بعدما وزعت المال الموعود عليهم.

لو أن رحلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي انتهت يوم الجمعة الماضي 16-05-2025 كانت لإسرائيل، لانطبقت المسرحية نصاً وحدثاً كما كتبها المؤلف. فترامب الذي قدم في فترة رئاسته الأولى لإسرائيل ما لم يقدمه لها أحد (الاعتراف بالقدس عاصمة ودفع مشروع الاتفاقات الإبراهيمية وغيرهما) لقلنا إن هذه القرارات قد قوبلت من قبل بنيامين نتنياهو وحكومته بالجحود والإنكار لترامب وذهبا ليتفاهما ويتناغما مع إدارة بايدن، ولكانت زيارته شبيهة بزيارة السيدة العجوز إلى تلك القرية. ولكنه لم يزر إسرائيل، بل استثناها، ما دفعها لتصعيد آلية القتل والتدمير في غزة والضفة الغربية وداخل سورية.

وحتى نضع زيارة الرئيس ترامب في إطارها الواقعي، يجب أن نتذكر أن أربعين مليون دولار قدمت على شكل تبرعات لحملته الانتخابية الرئاسية السابقة من قبل شيلدون أدلسون (الثري الأميركي اليهودي صاحب كازينوهات القمار) قد دفعت ترامب لاتخاذ القرار التنفيذي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وكان من المتوقع أن التبرع الذي قدمته أرملة شيلدون أدلسون بمقدار 100 مليون دولار لحملته الانتخابية الأخيرة كان مشروطاً باعتراف إدارة ترامب، إن نجح في الانتخابات (وقد نجح)، بالاعتراف بضم الضفة الغربية لإسرائيل.

ولو عدنا إلى الأرقام التي حصل عليها الرئيس ترامب للاقتصاد الأميركي من دول الخليج، لرأينا أن المباشر منها والموقع عليه قد وصل إلى 600 مليار دولار من السعودية، و200 مليار من دولة قطر، و200 مليار من دولة الإمارات. ويبلغ مجموع هذه الأرقام تريليون دولار. ولكن السعودية التزمت برفع المبلغ الملتزم به في السنوات القادمة إلى تريليون دولار، وكذلك التزمت الدول العربية بمشاريع استثمارية تقارب 1.4 تريليون دولار خلال السنوات العشر القادمة. ولا أدري تماما ما هو المبلغ الذي التزمت به دولة قطر عدا الـ200 مليار ثمناً لـ150 طائرة مدنية من بوينغ. وإذا قلنا إن الدول الثلاث ستشتري أسلحة بمقادير إضافية تقارب تريليون دولار، فإن المبالغ التي التزمت بها أو يجرى العمل على تأطيرها ضمن اتفاقات وصفقات قد يصل إلى ثلاثة تريليونات دولار وأكثر خلال العقد القادم أو ربما ما يقارب 340 مليار دولار سنوياً.

ولو نظرنا إلى صادرات الدول الثلاث من الوقود الأحفوري (النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم)، لرأينا أنه بأسعار وكميات العام 2023 قد بلغت حوالي 500 مليار دولار. وبمعنى آخر، بافتراض أن هذا المبلغ سيبقى، فإن 68% منه ستخصص للاستثمارات الأميركية في السنوات العشر القادمة، وهو رقم كبير بكل المقاييس، ويعني أن دول الخليج الثلاث قد ارتبطت ارتباطاً استراتيجياً كبيراً بالولايات المتحدة.

وبغض النظر عن الأبعاد السياسية للقرار، فإن السؤال الاقتصادي الكبير هو: هل سيساعد هذا الارتباط التكنولوجي للدول الثلاث بتحقيق الهدف الاستراتيجي الأساسي، وهو تنويع اقتصاداتها ومشروعاتها التنافسية حتى تخرج من مرحلة الاعتماد على النفط الذي من المتوقع أن يفقد مركزه الاستراتيجي العام 2050؟

إذاً، فالرهان في هذه الدول الثلاث هو على تنويع الاقتصاد بأموال النفط حتى يستطيعوا الاستغناء عن الدخل من الخام الاسود. وهذا يتطلب مقترحاً كان يسميه اقتصاديو البنك الدولي والمختصون بالتنمية بنموذج "الدفعة الكبيرة" أو (Big-Push Approach) الذي يقول إن إحداث النقلة الشاملة في الاقتصاد لها متطلبات غير قابلة للتجزئة، وهذه المتطلبات الثلاث هي أولاً: تكامل البنى التحتية والخدمات المساندة للإنتاج، وثانيها: توفر الاموال وحسن إدارتها لتنويع العملية الاقتصادية، وثالثها: تدريب وتأهيل وتوفير القوى العاملة المطلوبة لإنجاز الأعمال أثناء عملية البناء وبعدها حين تبدأ الآلات في العمل بكامل جذوتها وطاقتها.

لم تكن زيارة ترامب التي لم تبلغ مدتها أكثر من ستة أيام كافية لتخطيط كل ما أنجز خلالها، بل أصبح من الواضح أن الزيارة قد مُهِد لها بكثير من العمل على المشروعات ومؤتمرات الاستثمار والاتفاقات الخاصة بين الشركات ومذكرات التفاهم والاتفاقات الحكومية، وحتى مراسم الاستقبال وأماكن الزيارة والمؤتمرات الصحافية والتغطية الإعلامية التي بدت كلها منظمة تنظيماً وثيقاً، بدءاً من أسماء المرافقين للرئيس ومروراً بالأماكن التي زارها مثل مسجد الشيخ زايد في أبوظبي والكنيس الإبراهيمي فيها. هذا التنظيم الدقيق يسوقنا إلى اعتماد فرضية مفادها أن كل الخطوات والترتيبات التي نفذت بموجبها الزيارة وفعالياتها لم تكن صدفة، سواء ما اشتملت عليه أو حتى ما لم تشتمل عليه.

من ناحية، فإن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الرياض وقبوله الرعاية الملكية السعودية لتكون وسيطة لدى البيت الأبيض والرئيس ترامب، والتي أدت إلى إلغاء العقوبات عن سورية، تعني أن سورية قد دخلت في علاقة متميزة مع دول الخليج لكي تقوم الأخيرة بمساندة عملية إعادة الإعمار في هذا البلد العربي الصميم. ولأن الحكومة اللبنانية فشلت حتى الآن في جمع سلاح حزب الله، فإنها لم تدع إلى الرياض، ولربما تمنح سورية الآن كل الدعم لكي تحول دون وصول أي سلاح من إيران أو من غيرها عبر الأراضي السورية إلى جنوب لبنان والبقاع.

ولأن مؤتمر قمة خليجية كان سيعقد في الرياض قبيل انعقاد مؤتمر القمة العربية في بغداد، فإن استثناء مصر والأردن من هذه القمة يضع البلدين أمام مواقف يجب أن تحسم. الأول هو أن الأردن الذي اعيدت إليه المساعدات العسكرية والمالية الأميركية لدعم الخزينة بحاجة إلى أن يصوغ موقفه من الولايات المتحدة كي يبقي العلاقات الاستراتيجية معها. ولكنه يجب أن يكون يقظاً كل اليقظة من أن يقع تحت ضغوط اللوبي الصهيوني واصدقائه ليفرض على الأردن قبول مهاجرين إليه من الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا يتطلب أن يحافظ الأردن على علاقات وثيقة مع الدول الأوروبية واليابان. والسياسة الأردنية واعية لهذا الأمر.

أما بالنسبة لمصر، فالأمر مختلف قليلاً. وفي رأيي أن على دول الخليج الانتباه من أن مصر دولة مهمة جداً، ولا يجوز العبث بوضعها الداخلي لخلق فوضى قد تحيل المنطقة كلها إلى حالة عدم الاستقرار والتوازن التي يسعى نتنياهو ليبقيها فيها. ولا يجب أن تنجر كثيراً في تضخيم مشكلة حماس في قطاع غزة بعد كل الدمار والقتل والتجويع الذي يعاني منه القطاع. وإذا تركت مصر للفوضى، فإن غزة ستبدو بالمقارنة قضية بسيطة.

زيارة الرئيس الأميركي إلى منطقة الخليج الأسبوع الماضي انتهت، وحقق الرئيس ترامب المكاسب المادية التي أرادها. ولكنها لم تعط له مجاناً بل مقابل استثمارات ومشتريات كان معظمها سيتم حتى من دون تلك الزيارة. ولذلك، فإن الزيارة في نهاية الأمر يجب أن تعطي الجانب العربي شيئاً يستحق أن يفرح به. ومن أهم هذه الأمور كان اعتراف الولايات المتحدة بدولة فلسطين، أو انهاء الحرب في غزة التي عانت الأمرين أثناء الزيارة، أو حداً أدنى، الوصول إلى وقف لإطلاق النار. ولذلك، فإن الأموال العربية المستثمرة في الولايات المتحدة ومعها يجب أن ينتج عنها قرار سياسي مهم يستحق أن نسميه مكسباً سياسياً يعطي الزيارة أبعاداً غير مادية (Non Transactional). ولو عرضت نفس المبالغ على الصين، لربما حصلت دول الخليج على أكثر بكثير من الولايات المتحدة. إن الفائدة الأساسية هي الحصول على نتائج سياسية ملموسة تعوض القرارات الأميركية السيئة ضدنا، عربا ومسلمين، التي اتخذها الرئيس ترامب حين نقل السفارة إلى القدس وحين اعترف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل.

لقد أدت زيارة السيدة العجوز إلى قريتها إلى معاقبة الظالم الذي أضرَّ بها، ونريد من زيارة الرئيس الأميركي إلى الخليج أن تنهي حكومة نتنياهو، وهي قادرة على ذلك.

Read Entire Article