ARTICLE AD BOX
أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً". كان يُمكن أن ينطبق هذا المثل على "صحوة الضمير" الأوروبية التي يبدو أنها طرأت حيال حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. تأخر ارتفاع الصوت الأوروبي، وخرج أخيراً رفضاً لاستمرار إبادة غزة وللهجوم الشامل على القطاع ونية إسرائيل احتلاله بالكامل والبقاء فيه، وفق خطة اليمين المتطرف الذي بات مهيمناً على الحكم في تل أبيب، وتَمكّن من فرض هيمنته على صناعة القرار، بما في ذلك عبر اعتماد سياسة ممنهجة من الإبادة والتدمير. ويصعب وضع بيانات دولية وازنة، بما فيها لفرنسا وبريطانيا، اليوم في خانة صحوة الضمير، لكن قد يُمكنها، بعيداً عن دوافعها، أن تحدث فارقاً إذا ما ترافقت التصريحات مع إجراءات ملموسة حازمة يمكن أن تؤدي إلى عزل دولة الاحتلال عن المجتمع الدولي، وتشجع دولاً أخرى صامتة، وتدور بالكامل في فلك الولايات المتحدة، على رفع الصوت، وإجبار الاحتلال على فرملة عدوانه.
أكدت فرنسا وكندا وبريطانيا التزامها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية
كُثر كان من حقهم أن يتفاجأوا بالموقف التصعيدي ضد إسرائيل من بريطانيا التي كانت، حتى يوم أمس، تصنّف على أنها من بين الأكثر تبريراً لجرائم إسرائيل من بين جميع حلفاء الدولة العبرية إلى درجة أن رئيس الحكومة الحالية، كير ستارمر، صاحب عبارة شهيرة أطلقها خلال حملته الانتخابية التي أوصلته إلى داونينغ ستريت، وحرفيتها أن من حق إسرائيل استخدام سلاح التجويع في غزة، لكن الموقف البريطاني أمس الثلاثاء، تجاوز التوقعات والتهديدات اللفظية التي أطلقها أول من أمس زعماء قادة فرنسا وبريطانيا وكندا، وانتقل إلى الفعل، مع إعلان وزير الخارجية ديفيد لامي، في البرلمان، وقف مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين لندن وتل أبيب، ثم استدعاء السفيرة الإسرائيلية لدى المملكة المتحدة، المعروفة بمواقفها الدموية العلنية، تسيبي هوتوفلي، لإبلاغها بأن إدارة الحرب على غزة غير مقبولة، وأخيراً فرض عقوبات على جمعيات استيطانية ومستوطنين أفراد في الضفة الغربية.
بيان ثلاثي لوقف إبادة غزة
وارتفع مساء أول من أمس، منسوب التوتر بين إسرائيل وعدد من الدول الغربية، بعدما هدّد قادة فرنسا وبريطانيا وكندا، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر ونظيره الكندي مارك كارني، باتخاذ "إجراءات ملموسة" ضد إسرائيل إذا لم توقف حملتها العسكرية التي استأنفتها على غزة وترفع القيود المفروضة على المساعدات، فيما تحذّر الأمم المتحدة وخبراء دوليون بالفعل من مجاعة تلوح في الأفق. وذكر بيان مشترك للدول الثلاث، نشرته الحكومة البريطانية، أن "منع الحكومة الإسرائيلية إدخال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكّان المدنيين أمر غير مقبول وينتهك القانون الإنساني الدولي". واستخدم البيان المشترك بعض المصطلحات للمرة الأولى، منتقداً "اللغة البغيضة التي استخدمها أعضاء الحكومة الإسرائيلية أخيراً، مهددين بأن المدنيين سيبدأون في الانتقال من غزة بسبب يأسهم من تدميرها، فالتهجير القسري الدائم انتهاك للقانون الإنساني الدولي". وجاء في البيان أنه "إذا لم توقف إسرائيل هجومها العسكري الجديد وترفع القيود التي تفرضها على المساعدات الإنسانية، سنتخذ إجراءات ملموسة أخرى ردا على ذلك". وفي ما يتعلق بالأنشطة الاستيطانية، قالت الدول الثلاث إنها تعارض "أي محاولة لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية"، مضيفة أنها "لن تتردد في اتخاذ المزيد من الإجراءات، بما في ذلك فرض عقوبات محددة الهدف". وقال القادة الثلاثة في بيانهم: "دعمنا دوماً حقّ إسرائيل في الدفاع عن الإسرائيليين ضد الإرهاب، لكن هذا التصعيد غير متناسب على الإطلاق"، مضيفين أنهم لن يقفوا متفرجين بينما تواصل حكومة نتنياهو "هذه الأعمال الفظيعة". كما أعربوا عن دعمهم للجهود التي تقودها الولايات المتحدة وقطر ومصر من أجل وقف إطلاق النار في غزة، وقالوا إنهم "ملتزمون بالاعتراف بدولة فلسطينية مساهمةً في تحقيق حلّ الدولتين".
ورداً على ذلك، اتهم رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو "القادة في لندن وأوتاوا وباريس"، بأنهم "يعرضون جائزة ضخمة للهجوم على إسرائيل بهدف الإبادة في السابع من أكتوبر 2023، ويدعون إلى المزيد من هذه الفظائع". وأضاف أن إسرائيل "ستدافع عن نفسها بالوسائل العادلة حتى تحقيق النصر الكامل"، مؤكدا شروط الاحتلال لإنهاء العدوان والتي تشمل إطلاق سراح المحتجزين المتبقين لدى "حماس" ونزع السلاح من غزة. من جهتها، رحّبت حركة حماس ببيان الدول الثلاث ووصفته بأنه "خطوة مهمة" في الاتجاه الصحيح نحو استعادة مبادئ القانون الدولي.
وكان التصعيد الكلامي بين ماكرون وحكومة الاحتلال، قد سبق البيان، بعدما وصف الرئيس الفرنسي في 13 مايو/أيار الحالي، حملة التجويع التي تنفذها حكومة نتنياهو في القطاع بأنها "غير مقبولة" و"مخزية"، مؤكدا أن الأزمة الإنسانية في غزة هي "الأخطر على الإطلاق". وأوضح أنه أحد القادة القلائل الذين وصلوا إلى معبر رفح، حيث رأى "أسوأ المشاهد"، في إشارة إلى زيارته لمصر في إبريل/نيسان الماضي. وردّ عليه كل من نتنياهو ووزير أمنه يسرائيل كاتس، حيث اتهماه بأنه بدعم "منظمة إرهابية"، في إشارة لـ"حماس"، وأن عليه "ألا يعطينا دروساً في الأخلاق". وفي الإجمال، فإنه منذ بداية العدوان، لم تكن العلاقة بين الإليزيه ودولة الاحتلال على أفضل حال، وفي أكتوبر الماضي، سرّب كلام عن ماكرون بشأن "تأسيس إسرائيل" بقرار أممي، فيما انتقد ماكرون مرات عدة ما رأى فيه هجوماً غير متكافئ على القطاع رداً على هجوم "حماس". لكن فرنسا استأنفت مشاركة دولة الاحتلال في معارضها العسكرية، كما أن إبادة غزة لم توقف مبيعات الأسلحة الفرنسية لإسرائيل، وكل أنواع التعاون الاستخباري والعسكري، رغم أن الضغط الفرنسي على إسرائيل شمل أيضاً لبنان، لتسهيل عمل القيادة الجديدة في بيروت، المدعوة من باريس. أما بالنسبة لبريطانيا وكندا، فإن حكومتيهما "العُمّاليتين" متحررتان اليوم من عبء الانتخابات، فضلاً عن الخلافات العميقة بين أوتاوا وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
دعت إسبانيا إلى فرض عزلة ثقافية على إسرائيل
المواقف الفرنسية والكندية والبريطانية اللفظية، والتي لم تترجم إلى أفعال، تختلف جذرياً عن واشنطن، إذ أن ترامب كان ذهب بعيداً في طرح أفكار متعلقة بغزة، تتضمن تهجيراً قسرياً، وطرداً لسّكانها إلى دول مقترحة جرى تداول أسمائها في الإعلام، تعاني بدورها من ويلات حروب وفوضى وإرهاب، مثل الصومال أو السودان أو ليبيا، كما لم يخف رغبة باستيلاء أميركي على القطاع.
مشروع عزل
وكانت سبقت الإعلان الفرنسي البريطاني الكندي المشترك، الذي لم تنضم إليه ألمانيا، دعوة سبع دول أوروبية، هي مالطا وأيرلندا وأيسلندا وسلوفينيا وإسبانيا والنروج ولوكسمبورغ، في بيان مشترك صدر في 17 مايو الحالي، إسرائيل لإنهاء إبادة غزة ومنع إدخال المساعدات إلى القطاع، مؤكدة أنها "لن تبقى صامتة تجاه الكارثة الإنسانية التي تجري أمام أعيننا في غزة". وقبل أيام قليلة، طالب رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، إسرائيل برفع الحصار عن غزة بشكل عاجل، قائلاً إن "شعباً بأكمله يتعرض لقوة عسكرية غير متناسبة، والقانون الدولي يُنتهك بشكل ممنهج". ودعت إسبانيا إلى فرض عزلة "ثقافية" أيضاً على دولة الاحتلال، وأكد رئيس حكومتها بيدرو سانشيز خلال القمة العربية في بغداد السبت الماضي، أن حكومته ستقدّم اقتراحاً جديداً في الأمم المتحدة لضمان إيصال المساعدات إلى القطاع، مشيراً أيضاً إلى أنه "يجري إعداد مشروع قرار بالجمعية العامة لمناشدة المحكمة الجنائية تجريم إسرائيل لانتهاك التزاماتها الدولية"، فيما يدرس الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات اقتصادية على دولة الاحتلال.
ويبدو هذا الحراك الأوروبي، متزامناً مع ضغط عربي، مارسته دول عربية خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنطقة، لفكّ الحصار الغذائي عن القطاع، حيث إن أنظمة عربية وغربية عدة، لا تحتمل وضعها في مصاف الدول المتواطئة على إبادة غزة والتجويع الجماعي المتعمد الذي تمارسه إسرائيل في القطاع، رغم الاختلافات الجذرية في مقاربة ملف الحقوق الفلسطينية والمقاومة ضد الاحتلال وصياغة مستقبل القطاع ومشروع الدولة الفلسطينية، فضلاً عن التأييد الغربي الثابت للاحتلال، الذي من وجهة نظر جيوساسية، يعتبر أنه أنجز لداعميه الغربيين سلسلة "نجاحات" استراتيجية، خصوصاً في لبنان وسورية، وقيّد يد إيران في المنطقة.
رغم ذلك، فإن إسرائيل قد يكون ثقيلاً عليها أي اعتراف فرنسي محتمل بدولة فلسطينية، وهو ما أقدمت عليه كلّ من إسبانيا وأيرلندا والنرويج خلال جولة الحرب الدائرة حالياً. لكن اعترافاً لا يوضح حدود الدولة الفلسطينية بعام 1967، يبقى فارغاً من أي مضمون، ولا يعني سوى تسمية السلطة الفلسطينية الحالية، دولةً. والأسبوع الماضي، أكد وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو أن "أحدا لن يملي موقفه على فرنسا" بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وذلك ردا على نظيره الإسرائيلي جدعون ساعر الذي هدّد "بإجراءات أحادية الجانب" ضد الدول التي تقوم بذلك، حيث تتجه الأنظار إلى اعتراف فرنسي محتمل بدولة فلسطين في يونيو/حزيران المقبل لمناسبة مؤتمر حول فلسطين (مؤتمر حلّ الدولتين) يعقد في نيويورك وتتقاسم رئاسته فرنسا مع السعودية.
وبينما يجري الحديث في المنطقة عن "ترتيبات" لـ"سلام" مقبل مبني على نتائج جولة الحرب الحالية، لا ترغب العديد من الدول الأوروبية والغربية، أيضاً، أن تصبح أيديها مغمسة إلى هذا الحد، بالدم الفلسطيني، خشية أن يلاحقها عار إبادة غزة كما يلاحق الاحتلال، في المحاكم الدولية. العام الماضي، رفع معهد جنيف الدولي لأبحاث السلام (جيبري) شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ضد رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، بتهمة التواطؤ في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين. ويوم الأحد الماضي، تظاهر عشرات الآلاف بملابس حمراء في لاهاي، للمطالبة ببذل المزيد من الجهود لوقف إبادة غزة والمذابح الإسرائيلية في القطاع، والتي وصفها المنظمون بأنها أكبر تظاهرة في هولندا منذ حوالي 20 عاما. ورأت صحيفة لوموند الفرنسية، أول من أمس الاثنين، أن رفض العواصم الغربية للقطع مع إسرائيل يدفع بشدة المجتمعات المدنية للتحرك، وهو ما تواجهه بريطانيا وألمانيا، ودول أخرى، وذكّرت بأنه مع زيادة خطر المجاعة، فإن مجموعة من 250 منظمة غير ربحية أطلقت أخيراً نداء لتجهيز "أسطول إنساني دبلوماسي" على أعلى مستوى لكسر الحصار. والأسبوع الماضي، حذّرت منظمة "محامين من أجل احترام القانون الدولي" (جوردي) في رسالتين، لفون ديرلاين والمجلس الأوروبي، من أن عدم اتخاذهما أي إجراءات لمنع إبادة غزة المتواصلة، سيضطرها إلى رفع دعويين ضدها أمام محكمة العدل الأوروبية.
(العربي الجديد)
