"عودة سيد الأحمر" رواية تستدعي آثار هزيمة 1967

2 days ago 2
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">لوحة للرسام المصري آرمين جوفيان (صفحة الرسام - فيسبوك)</p>

شعبان يوسف، المنتمي إلى ما يعرف ب"جيل السبعينيات" المصري، يملك وجوهاً عديدة، فهو شاعر وناقد أدبي وباحث ثقافي، حتى أن الكثيرين لقبوه بـ"جبرتي الثقافة المصرية"، إضافة إلى كتاباته المتتابعة للمقال في الصحف والمجلات المصرية والعربية. لكن الوجه الجديد الذي فاجأنا به شعبان يوسف هو كتابته للرواية. الرواية عنوانها "عودة سيد الأحمر" (دار دوِّن)، يتداخل فيها الخاص والعام، أو لنقل إن أغلب الشخصيات السردية مهمومة بالشأن العام، السياسي تحديداً. والرواية مقسَّمة إلى فصول معنونة، من قبيل: "سيد الزنباعي، تغيانة، ليلة السفر، الدكتور شفيق، وسامي وتريزا وإستر".

ومن خلال استعراض هذه العناوين يمكن القول إن "سيد الزنباعي" الملقب بـ"سيد الأحمر" لاحمرار وجهه هو الشخصية الرئيسية في هذه الرواية التي يمكن وصفها– بناء على هذه العناوين الفرعية– بأنها "رواية شخصية"، وإن كان هذا لا يقلل– بداهة– من أهمية وصف المكان وتصوير التطور الزمني للأحداث من خلال بنية زمنية متصاعدة متنامية تتخللها مجموعة من الاسترجاعات الضرورية لبناء السرد.

اللغة التداولية

وامتياز هذه الرواية بتوظيف اللغة التداولية، يؤكد قول شكري عياد إن الروائي "نصف عالم اجتماع". ومن بين عادات الطبقة القريبة من الفقر حيث تدور أحداث الرواية، ما بين قرية في صعيد مصر وحي شعبي على أطراف القاهرة، تكرار طقس الطعام بأطعمته البسيطة التي يعددها الكاتب: البيض المسلوق والطعمية البيتي والليمون المعصفر وطماطم مقطعة ومخللة ومحشوة بالثوم. وفي فصل "سامي وتريزا وإستر"، نجد تأكيداً على قيمة المآخاة الدينية، فإستر اليهودية تعلن إسلامها وتتزوج مسلماً، وفي موضع آخر يقول السارد: "طبعاً مكانش فيه أي خلافات بيننا وبين بعض حوالين الديانة، بالعكس كانوا هم التلاتة يتكلموا عن الكنيسة وأنا أتكلم معاهم عن أبويا اللي كان شيخ جامع".

بل إن "عم فرج" المسيحي كان يعمل وقتاً مضاعفاً كنوع من المساندة للإخوة المسلمين لأنهم صائمون، ودائماً ما كان يردد شعار ثورة 19: "الدين لله والوطن للجميع"؛ حتى تم اختطافه من الشارع بتهمة مصادقة عدد من اليهود. وسوف نلاحظ اختلاط اليهودية والصهيونية في ذهن المحقق، فاليهودية دين سماوي بينما الصهيونية أيديولوجيا عنصرية، وهناك صهاينة من غير اليهود، كما أن اليهود ليسوا جميعاً صهاينة. ولعل تشومسكي أشهر من أن نشير إليه في هذا السياق.

النكسة والاختباء

توقف شعبان يوسف أمام نكسة 67 طويلاً، وربط بين هذه الواقعة المؤلمة على المستوى العام واختفاء "سيد الأحمر" على المستوى الخاص بحيث بدا الأمران مثل بنيتين متوازيتين، فقد جاء في التلغراف الذي أرسلته حليمة بنت عبد الرازق (ابنة عم سيد) إلى أسرته بأن "ولدكم سيد خرج اليوم الإثنين 5 يونيو من بيت خالته أم إبراهيم، ولم يعد حتى حينه، ولا أحد يعرف منا عن غيابه أي شيء". ويصف الكاتب الحالة العامة بعد النكسة بأنها كانت حالة خوف وترقب ورعب وقلق لم تحدث من قبل، ولا يوجد تفسير لأي شيء. يقول عادل الجميعي أحد شخصيات الرواية: "إسرائيل هي اللي هتبدأ الحرب زي ما سمعنا دلوقتي، يعني الطلقة الأولى هتيجي من هناك، إحنا مش دعاة حرب ولا عدوانيين أبداً على رغم التصريحات النارية اللي بنسمعها يمين وشمال من قادة وسياسيين كبار جداً في البلد".

وقوله: "لسنا دعاة حرب على رغم التصريحات النارية"، يذكرنا بقول توفيق الحكيم في كتابه "عودة الوعي" إن سبب الهزيمة يرجع– في جانب منه– إلى أن عبد الناصر كان يعلن الحرب ويضمر السلام، بينما إسرائيل تعلن السلام وتضمر الحرب، ومن يعلن الحرب ويضمر السلام يخسر في الحرب والسلام معاً. ومع وقوع الهزيمة يظل خداع الشعب مستمراً، حين يصر المذيع أننا أسقطنا ستين طائرة ثم سبعين طائرة، وكأنها طائرات من ورق، واللافت أن الشعب انخدع بالفعل حتى أن رجلاً عجوزاً اسمه رفعت الأباصيري يبلغ من العمر ثمانين سنة، اصطحب أحفاده ليتبرعوا بالدم، وتنازل عن السيارة التي يملكها لمصلحة المجهود الحربي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع ذلك وقعت الهزيمة التي تسبب فيها الاستبداد والانفراد بالرأي وهيمنة الدولة البوليسية. كما كانت– أي الهزيمة- نتيجة الفساد، وهو ما كان يعرفه الجميع عن أعضاء الاتحاد الاشتراكي، فطلباتهم مستجابة وأولادهم يعملون في أهم الوظائف، أما غيرهم فكانوا فقراء عاطلين. وهذا ما دفع القروي البسيط "سيد الأحمر" للسفر إلى القاهرة بحثاً عن الرزق ليتمكن من الزواج من "تغيانة". لقد أصبحت القاهرة– بتعبيرات يوسف إدريس– مثل "النداهة" التي جذبت فقراء القرى الحالمين بالثراء، ومنهم من حقق ذلك ومنهم من فشل وتعرض للسجن كما حدث مع "سيد الأحمر".

ويصف الكاتب القطار المتحرك من تلك القرى إلى القاهرة بوصفه مكاناً متحركاً وعالماً ومجتمعاً متنقلاً، ويصف درجاته المختلفة ما بين الأولى والثالثة، وما تموج به هذه الدرجة من بشر بسطاء يعانون شظف العيش. كما يعرض الكاتب لبعض التنظيمات الشيوعية التي كانت ترى في جمال عبد الناصر رمزاً وطنياً لكنه يؤازر الرأسمالية حتى لو أطاح بالرأسمالية القديمة، والحكاية كلها كانت في استبدال رأسمالية الدولة برأسمالية الأفراد، وكل هذا يمنح الرواية طابعاً معرفياً جدالياً لافتاً. وكما تزامن اختفاء سيد الأحمر مع وقوع النكسة فقد تزامنت عودته وظهوره وسط التظاهرة التي تطالب جمال عبد الناصر بعدم التنحي مع عودة الرئيس استجابة لمطالب الجماهير، يقول السارد: "كان الجميع– يقصد أهل سيد الذين رأوه– غير مصدقين ما حدث ويحدث، ولكنهم قرروا العودة ومعهم سيد، بعد أن اطمأن إبراهيم ورفاقه بعودة الرئيس لمسؤوليته التاريخية".

الجُمل الثقافية   

كان لاهتمام الرواية بالبعد الاجتماعي أثر واضح على توظيف الجماليات الشعبية، ومن ذلك تعبير "أبو خيمة زرقا" إشارة إلى الله سبحانه وتعالى، يضاف إلى ذلك تضمين المقالات من قبيل مقال صلاح جاهين في مجلة "صباح الخير" عن النكسة، وهذا ما يبدو من وصف عادل الصاوي بقوله: "صلاح جاهين يحمل وجهة النظر الرسمية، ولا بد أن هناك أسراراً وكواليس لن يستطيع أن يقولها ويكشف عنها".

وهناك ما يمكن أن نسميه الجمل الثقافية التي لا تستطيع معرفة دلالتها إلا بالرجوع إلى سياقها ومعرفة قائلها، "هنا تربَّع جلال على الدكة– في حديثه عن سر غياب سيد الأحمر– وكأنه سيقول حكمة الجبل". فنحن لا نستطيع أن نصل إلى دلالات هذا الشاهد إلا بمعرفة أن حكمة الجبل هي الحكمة التي ألقاها السيد المسيح عليه السلام على حوارييه. وفي بداية الرواية نجد مشهداً كنائياً دالاً وكأنه نوع من استشراف ما سوف يحدث في المستقبل، وذلك في تصوير قفزة سيد الأحمر فوق أحد الأسوار؛ "كانت القفزة قوية فهدم بعضاً من أعلى السور في المساحة التي حملت كلمة (حنحارب) تحت الجدار المتهالك". وتهمني– هنا- الإشارة إلى بعثرة حروف كلمة "حنحارب" بوصفها استشرافاً لما سيحدث في المستقبل من عدم دخول الجيش المصري في الحرب حقيقة حيث تلقى الضربة الأولى وجاءته الأوامر بالانسحاب في فوضى مهلكة.

subtitle: 
شعبان يوسف يتكئ على اللغة التداولية لمقاربة واقع اجتماعي وسياسي
publication date: 
السبت, مايو 17, 2025 - 12:15
Read Entire Article