ARTICLE AD BOX
على قدر الفشل أو الهزيمة يتفشّى الحزن، فما بالك إذا اجتمعا معاً في وقت واحد؟ إبّان الحروب، تتولّد البطولات، لكنّ الأبطال لا يُصنَّعون. أصحاب البطولات الزائفة يتحوّلون أنصافَ آلهة في سياق حمّامات التمجيد الباردة. مثلما يخرج من بين الأنقاض لصوصٌ، ينسلّ كذلك تجارٌ مستثمرون وأدعياء مزيّفون، كلّهم أبعد ما يكونون عن مصالح الوطن ونبض الشعب. قيادة الدولة مسؤولية توازي الحرّية، "توزن ببيض النمل"، كما وصفها لينين. ما من قائدٍ وطنيٍّ يقبل ممارسة اللامبالاة، الفُرجة أو التزوير، حيال تدمير مقدّرات الوطن ومكتسبات الشعب. في سبيل استرداد السلم الوطني لا يتردّد القائد الوطني الحقيقي في التخلّي عن منصبه، كذلك فعل جمال عبد الناصر غداة هزيمة 1967. بعضهم يذهب إلى خياراتٍ أشدّ قسوةً، إن كانَ لا بدّ ممّا ليس منه بدٌّ، إحساساً بالمسؤولية الوطنية.
في تضاعيف الدبلوماسية المركّبة تبرز حيوية بناء جسور التفاهم مع الدول تكاملاً مع سياسة داخلية راشدة. أيما ارتباك في هذه المنظومة يعكس اختلالاً في بُنى السياسة الداخلية للدولة
يشكّل العمل العسكري مع العمل الدبلوماسي والإعلامي الكتيبة الأولى في جبهة المواجهة، كما عند خطوط الدفاع. في تضاعيف الدبلوماسية المركّبة، تبرز حيوية بناء جسور التفاهم مع الدول تكاملاً مع سياسة داخلية راشدة. ويعكس أي ارتباك في هذه المنظومة اختلالاً في بُنى السياسة الداخلية للدولة، فكما قال المادح اليماني عبد الرحيم البرعي: "لا يستقيم الظلّ والعود أعوج"، لكنّ السياسة الخارجية والدبلوماسية أمران مختلفان وفق تصنيف أستاذنا الراحل منصور خالد، فربّما "هناك سياسةٌ مرتبكةٌ ودبلوماسيةٌ ذات كفاءة"، ألا رحم الله ذلك الماجدي إذ قال: "كلّ خطاب سياسي يلحق الأذى بالناس بمثابة الذنب"، فهلّا أدرك أنصاف الساسة وأنصاف العسكر ما يكنزون لأنفسهم من ذنوب باسم الكرامة الوطنية؟!
خطابنا السياسي أسوأ أخطائهم الدنيوية، وأحد أكبر خطيئاتهم الدينية، فهو ردحٌ بين الادّعاءات الوهمية والدعوات الهجائية. هو نتاج بؤس أدائهم على الصعيد العام. عملٌ يغيب عنه النهج الفكري والأداء الجماعي. في غمرة التخبّط يطفو دوماً المغامرون المستثمرون أصحاب رؤوس الأموال والطموحات الحرام. جهد هؤلاء ينصبّ في تمجيد فرد أو تعظيم تنظيم لإكساب نشاطهم الحرام شرعيةً وطنيةً. لا مجال للتشكيك في قدرات ذلك الفرد أو تبخيس ذاك التنظيم، خائنٌ كلّ من يردّد كلاماً على صيغة "الجماهير هي القوى الحقيقية لصناعة التغيير وكتابة التاريخ". مطلوبٌ استهلاك شعاراتٍ من طراز "الكرامة الوطنية"، أيُّ كرامة ذاتية أو وطنية بينما الاقتتال من أجل احتكار السلطة يبلغ حدّ تشليع مؤسّسات الدولة وتدمير بناها التحتية؟
"ثمّ سقط ذلك النظام من ذلك الدرج الصاعد نحو الرشد والتقوى والحكمة إلى مدارك هوى الطغيان والظلم ليستبدّ الكبار الأكابر، يُعربد بهم طائشاً شيطانُ الفرعنة… ويدوسون الرعية ويعلنون مقولات ويرفعون صوراً باسم الحريات والانتخابات والشرعية واللامركزية وماهي إلّا أعراض زور ونفاق".. هذا مجتزأ ممّا كتبه حسن الترابي (يوليو/ تموز 2001) وهو يراجع مسيرة نظام الإنقاذ في "حركة الإسلام... عبرة المسير لاثني عشر السنين". ربّما تغفر لعرّاب "الإنقاذ" "مجاهداته" بُغية التراجع عمّا أفسد في الواقع السوداني، إذ اعترف بأن خطأه الأكبر أنه "لم يقرأ التاريخ حينما وثِقَ في العسكر"، ثمّ في مواجهة المعارضة بالقمع الأمني الفاشي الشرس، ثمّ عندما أدرك انغماس الحركة الإسلامية في الفساد حتى أمست إمبراطوريةً داخل البلد.
لم تكن ضغينته على تلاميذه المتحالفين مع العسكر ضدّه وحدها دافعه لتلك المراجعات، بما في ذلك تخلّيه عن فقه الضرورة، فالثقافة الفرنسية تشكّل أحد مكوّنات الرجل الفكرية، لكن ما تراه يقول لو طال به العمر حتى شاهد إلى أيّ درك تحدّر ذلك الطغيان والاستبداد والتزوير والنفاق، حتى أقحم البلاد والعباد في الفوضى في كلّ حدبٍ ممّا دفع الرعية إلى صحارى محنة تعايش فيها رمضاء الجوع والمعاناة والمكابدة في ملاذات اللجوء والمنافي؟ أمّا إذا كان الترابي شكا من سرقة العسكر مشروعه (وما فعلوها منفردين)، فإن العسكر من بعده سرقوا الدولة والأمّة برمّتها يقيناً، فوراء الجريمتَين بعض من تلاميذه المقرَّبين.
مثلت صحوة الترابي تلك استرداد العقل الناقد. غيابُه أحد أخطر علّات الإنقاذ، فوحش الترابي المضادّ للعقل والنقد انفرط توحّشاً بعد رحيله. وحده كان الرجل القادر على ترويض وحشٍ صنعه بيديه. بعد غياب الصادق المهدي، افتقدنا آخر العقول غير القابلة للسكون. فما كان في طبع الإمام الركونُ إلى الصمت واللامبالاة تجاه ما يضطرم في الساحة السياسية. للرجل القدرة على الجمع والطرح (نختلف معهما أو نتّفق) في شأن المُستجدّات. رغم الجفوة بينه وبين منصور خالد، أقرّ المؤرّخ السياسي بأن "الإمام هو الزعيم السياسي الوحيد الحريص على القراءة والكتابة"، كما رحل الترابي في توقيت حرجٍ عند منعطف مراجعة "الإنقاذ"، فقدنا الإمامَ وقد بلغ الشعبُ والوطنُ مفترقَ طرقٍ لا تزال مبهمة. المتيقّنون من الوحدة يعزون انشطار الجنوب إلى رحيل جون غرنغ المباغت واتفاق "الحكم الثنائي الثاني" لمّا يزال طرياً.
مكمن الأزمة ليس في غياب المنهج السياسي وحده، لكنّ الأخطر من ذلك غياب الساسة صنّاع التحوّل الثوري
عناصر عديدة تضاعفت في خطوط إجهاض ثورة ديسمبر (2018). تَدبّرُ التفاصيل يوضّح أن مكمن الأزمة ليس في غياب المنهج السياسي وحده، لكنّ الأخطر من ذلك غياب الساسة صنّاع التحوّل الثوري. فمحنة ديسمبر في السودان لم تكن في غياب نظرية ثورية، فثمّة نظرية ظلّت تُرتجل يومياً بحناجر الجماهير على إيقاع حركة الشباب في الشارع، لكن مفصل أزمة ديسمبر يتجسّد في غياب الرجال الثوريين. بعد تبديد الفرص التاريخية للثورة أدركنا ضعف النبض الثوري لدى من أدار الحوار مع جنرالات الإنقاذ، ثمّ من أدار عملية توليف السلطة التنفيذية، فمن شغل المقاعد الوزارية، ثمّ من تولّى تسكين المناصب القيادية في الدولة وساكنيها. غياب الرجال الثوريين لا يزال يكلّفنا باهظاً، فالعُود لا يزال أعوجَ.
لا تزال الحرب مستمرّةً؛ لأنها تدار من رجال يفتقدون الروح الوطنية والنبض الثوري. الأزمة السياسية مستمرّةٌ؛ لأنّنا لا نزال نفتقد الرجال الثوريين. الوطن يتوغّل في الحرب؛ لأن الشعب غارق مُغرق مستغرق في الشمولية بكلّ أشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وحدها أمواجُ التعدّدية العسكرية تتصاعد في اتساع رقعة الوطن! العود صار أشدّ اعوجاجاً.
