ARTICLE AD BOX
ظلت مدينة بورتسودان بعيدة نسبياً عن الأعمال العسكرية التي اندلعت في السودان في منتصف إبريل/نيسان 2023، ثم فُوجئ سكّانها مطلع الأسبوع الماضي بعشرات المُسيَّرات التي تستهدفها.
تتعرض مدينة بورتسودان (شرق) منذ الرابع من مايو/أيار الماضي، لسلسلة ضربات جوية بطائرات مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع استهدفت مواقع مدنية وعسكرية، من بينها مطار المدينة الدولي، ومستودعات الوقود، ومحطة الكهرباء، والقاعدة الجوية العسكرية، وقاعدة القوات البحرية، إضافة إلى عدد من الفنادق والمنازل في وسط الأحياء، ما أدى إلى حالة من الذعر والرعب بين السكان الذين هجر بعضهم منازلهم الكائنة في الأحياء القريبة من المناطق المستهدفة.
وغطى دخان النيران المشتعلة في مستودعات الوقود ومحطة الكهرباء لعدة أيام سماء المدينة التي انتقلت إليها الإدارات الحكومية منذ الأسابيع الأولى من اندلاع الحرب عقب سيطرة قوات الدعم السريع على العاصمة الخرطوم، كما استقبلت عدداً كبيراً من النازحين من الولايات المتأثرة بالحرب.
يقول أحد سكان المدينة لـ"العربي الجديد": "كنّا نعيش حياة طبيعية، والآن أصبحنا نخشى من كلّ شيء. هجمات الطائرات المسيرة تحدث من دون سابق إنذار، وتسبّب دماراً كبيراً، وبتنا نخشى على حياتنا لأن المسيرات كثيراً ما تخطئ أهدافها".
وكشفت مصادر طبية لـ"العربي الجديد"، أن عشر حالات وفاة وردت إلى المستشفيات، بعضها نتيجة للقصف، والبعض الآخر من أصحاب الأمراض المزمنة الذين تعرّضوا للاختناق من جراء الدخان الناتج عن الحرائق التي نشبت في المؤسسات والمرافق ومستودعات الوقود المستهدفة.
ومع استمرار قصف المسيرات التي صار تزور المدينة يومياً، خلَت عدة أحياء من السكّان، من بينها حي "ترانزيت" وحي المطار، حيث يقطن أثرياء المدينة، واللذان يضمان مقرات المؤسسات الحكومية ومقار البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية والإقليمية.
وانقطع التيار الكهربائي في بورتسودان كلياً منذ الثلاثاء الماضي، وكان في السابق مُبرمجاً بواقع ستّ ساعات كل يومين، ما أدى إلى تفاقم أزمة العطش في المدينة التي تُعاني من قلة المياه منذ أشهر، وبلغ سعر برميل مياه الشرب ما يُعادل 30 دولاراً يوم الجمعة الماضي.
ويواجه السكّان الذين فرَّوا من الأحياء القريبة من المناطق المستهدفة أزمةً كبيرة في توفير غاز الطبخ، كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، وتضاعفت كلفة تذاكر الحافلات المغادرة للمدينة، واكتظّت محطات الوقود بالمركبات التي تدافع أصحابها للتزوّد بالوقود قبل نفاده المحتمل.
انقطع التيار الكهربائي في بورتسودان كلياً منذ الثلاثاء الماضي
ولم تحرّك السلطات ساكناً، وفقاً لإفادات مواطنين من بورتسودان، ولم تطلق حتى تحذيرات صحية للابتعاد عن الأماكن المستهدفة، واكتفت بتكثيف الانتشار الأمني، ورصد ما وصفته بـ"الخلايا النائمة"، في حين لم تلتفت إلى معالجة آثار الحرائق وتهدئة السكّان الذين بدأوا في مغادرة منازلهم.
تسكن آمنة إبراهيم، وهي أمّ لثلاث بنات وولدين، في حي ترانزيت القريب من مستودعات الوقود المحترقة، وتقول إنها غادرت شقّتها بعد خلوّ المبني الذي تسكن فيه من السكّان، والذين غادروا في اليوم الأول لاستهداف المدينة بالمسيرات. وتوضح لـ"العربي الجديد"، أنها نزحت إلى حي ديم مدينة الذي تفصله عدة أحياء عن المواقع المستهدفة.
تضيف: "في اليوم الثاني من الهجمات، وجدت نفسي أقيم وحدي مع أبنائي في المبنى المكون من أربع طبقات، لذلك غادرت شقتي، وأنوي النزوح إلى ولاية الخرطوم التي أزاح منها الجيش قوات الدعم السريع في مارس/آذار الماضي. أزمتي الحالية تتمثل في قيمة تذاكر السفر، فقد استنفدت مدخراتي قبل أيام، إذ دفعت إيجار الشقة الشهري قبل يوم واحد من الهجمات، ولم يتبقَّ لدي المال الكافي لشراء التذاكر التي تضاعف سعرها عدة مرات بعد توقف عمل المطار وندرة كميات الوقود".
بدورها، انتقلت أسرة إبراهيم حامد، النازحة من الخرطوم، من حي المطار الذي أصبح خالياً إلى أحد الأحياء الطرفية في مدينة بورتسودان، وتتهيأ الأسرة حالياً للرحيل نحو مصر. يقول حامد لـ"العربي الجديد": "قررت السفر عبر الطرق غير النظامية بأسرتي المكونة من أربعة أشخاص إلى مصر بعد تدهور الأوضاع في بورتسودان. ارتفعت تذكرة السفر إلى مصر عبر التهريب من 300 ألف جنيه إلى 500 ألف جنيه، وذلك بسبب حالة الهلع التي يعيشها المواطنون الذين تدافعوا لمغادرة المدينة التي باتت مسرحاً لهجمات المُسيرات الحربية، فضلاً عن تعقيد إجراءات الحصول على تصاريح الدخول الرسمية من سفارة مصر وقنصلياتها في السودان".
يتابع: "نحن نازحون من الخرطوم، وقد فقدنا جميع مدخراتنا قبل وصولنا إلى بورتسودان، وعانينا طويلا لدفع إيجارات مرتفعة، وتوفير مستلزمات الحياة لأطفالنا، لكن الحرب لحقت بنا إلى هنا أيضاً، وتحوّلت المدينة التي كانت تنعم بأمان مشوب بالحذر إلى مسرح عمليات عسكرية مفتوحة بين المُسيرات والمُضادات الأرضية".
وصلت أسرة الطيب المبارك من ولاية شمال كردفان إلى بورتسودان في يناير/كانون الثاني 2024، وقد قررت النزوح مجدداً إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة. ويقول لـ"العربي الجديد"، إنّ أسرته مكوّنة من ثمانية أشخاص، وقد تمكّن بعد وصوله من بناء حياة جديدة في بورتسودان التي انتقلت إليها الأعمال الحكومية، إذ أقام متجراً صغيراً لبيع المواد الغذائية أصبح كافياً لتوفير قوت أسرته. لكن مع استمرار استهداف بورتسودان بالمُسيرات، لم يكن أمامه سوى النزوح مجدداً إلى ولاية الجزيرة، والتي تُعاني من نقص حادّ في الخدمات منذ استعادتها من قوات الدعم السريع قبل أشهر.
وتصاعدت وتيرة النزوح من وسط بورتسودان والأحياء المتوقّع استهدافها إلى مناطق أقلّ عرضةً للخطر، وسط أزمة خبز وندرة في مياه الشرب وانعدام الوقود، في ظلّ محدودية تدخّل السلطات، وغياب خطة طوارئ واضحة. واكتظت الأحياء الشعبية بالنازحين.
يقول التوم علي، النازح من حي ترانزيت، لـ"العربي الجديد": "هربت بأسرتي المكونة من تسعة أفراد إلى أحد الأحياء النائية تجنباً لخطر المسيرات. نقيم حالياً عند عائلة صديق في منزل صغير في حي يفتقر للخدمات، وسننزح إلى أي منطقة خارج بورتسودان خلال الفترة القادمة إذا لم يتوقف استهداف المسيرات".
وبعد تكرار استهداف قاعدة فلامنغو البحرية بعشرات المُسيّرات، بدأ سكّان أحياء الثورة والامتداد وهَدَل وديم النور الواقعة بالقرب من القاعدة مغادرة منازلهم. تقول إحدى النساء من حي ديم النور، إنّ "المُسيرات أغارت يوم الأربعاء الماضي على القاعدة في الساعة الخامسة صباحاً، ما دفع سكان الأحياء المجاورة إلى الفرار من منازلهم، ثم تجدد قصف أحياء المدينة والمواقع العسكرية بها يومي الخميس والجمعة التاليين".
تضيف: "غادرت بأسرتي إلى مدينة كسلا التي تعرّض مطارها لعدة هجمات بالمُسيرات بالتزامن مع الهجوم على بورتسودان، وأعتزم السفر عبر الطريق البرّي إلى إثيوبيا المجاورة، على الرغم من عدم قيامي بإتمام الإجراءات النظامية للسفر، وذلك بسبب صعوبة استكمال الإجراءات في سفارة إثيوبيا ببورتسودان".
وقرّرت سلطات بورتسودان إغلاق المقاهي والمتاجر الصغيرة، ومنعت أصحاب المهن والباعة المتجوّلين من العمل في منطقة السوق الرئيسية، وقال أحد أصحاب المقاهي لـ"العربي الجديد"، إن قرار منعهم من العمل يعني أن السلطات قررت تجويعهم بحجة مكافحة المسيرات التي لا علاقة لهم بها.
وتوقّف تلاميذ بعض مدارس بورتسودان عن الدراسة، ويعمل حالياً عدد محدود من المدارس في الأحياء الطرفية البعيدة عن وسط المدينة والمواقع المستهدفة، كما تعطّل عدد من الجامعات، وأصبحت المستشفيات الحكومية تعمل بالحدّ الأدنى، بينما توقّف عدد من المراكز الصحيّة الخاصة عن تقديم الخدمة الطبية من جراء انقطاع الكهرباء وانعدام المياه.
تصف فدوى الطيب، وهي نازحة من أم درمان، ما يجري داخل مدينة بورتسودان بأنه كارثة، وتضيف لـ"العربي الجديد" أن ما تقوم به قوات الدعم السريع "لعنة حلت على رؤوس الناس، خصوصاً النازحين. قررت النزوح للمرة الرابعة منذ بداية الحرب. نزحت في المرة الأولي من أم درمان إلى ود مدني بولاية الجزيرة، ثم نزحت إلى مدينة سنجة بولاية سنار، وأخيراً نزحت إلى بورتسودان، وها أنا مضطرة إلى النزوح للمرة الرابعة".
