"غيبة مي" لنجوى بركات.. استحضار الوجود الغائم

1 week ago 4
ARTICLE AD BOX

قد تكون "الغيبة" متميّزة عن "الغياب"، فالغيبة، كما هي في الدارج، وجه مقابل للحضور. في رواية "غيبة مي" للروائية اللبنانية نجوى بركات، مي هي تمامًا في النصف الثاني من الحضور؛ إنها في بيتها غائبة حاضرة، وحيدة، ومن تقابلهم ليسوا أشد حضورًا. قطة لم ترد إيواءها، لكنها آوتها من دون إرادة، ومن دون رغبة، تطعمها، بل وتأخذها إلى البيطري وتتفقدها. لكنها، هي الأخرى، حاضرة في موتها، وتبقى مي حادبة عليها، تُكلّمها وقد فاضت روحها.

هناك أيضًا البواب، وهو أكثر وجودًا من أن يكون مجرد بوّاب، أكثر وجودًا لدرجة لا نكاد معها نصدّق حضوره. غير هذين، هناك ذكريات لا تملك رهاف الذكريات ولا الحنين إليها. زوج لا نكاد نميّزه، وكأنه لم يكن. توأمان هما ولداها وتستحضرهما كولدين، لكنها كأنها ليست أمهما. كانت لها حياة كأن لم تكن لها، كأنها ليست أكثر من خيال يجعلها ترى نفسها، دائمًا، في امرأة أُخرى، تجلس على كرسيها وفي بيتها.

نقرأ فصلًا طويلًا كاملًا بلغة قوتها في هذا التنازع بين حضور خفي وخفاء حاضر. لكن بركات تجتهد كثيرًا في لغة الازدواج هذه، لغة القلق الشفّاف، لغة الوضوح المتمكّن من استحضار الغربة والوجود الغائم، والإقامة على الحافة، والظهور الشبحي، والنأي الصريح.

إظهار الواقع بكل فظاعته: بيع وشراء وتجارة ومال وسرقة

مي في الرابعة والثمانين؛ إنها عجوز بلغت سنًّا لم تعد فيها تُدرك ما بلغته أو تستوعبه. مع ذلك، فإن الرواية مكتوبة بقلق الشيخوخة، وكأنّ السيدة تعيش، في آنٍ واحد، متاعب الشيخوخة والخوف منها. إنّها في الرابعة والثمانين، لكن شيئًا فيها يجعلنا نحسّ أنها تسبق سنّها، إنها على حافته. في هذا الوضع، تتحوّل إلى موضوع، إلى مثال للخوف من الشيخوخة، بل نحن، القرّاء، نشترك معها في ذلك. نشعر أنّ النص، في جانب منه، هو هذا الرعب، هو هذا التأمل من بُعد، ومن علٍ، للطعن في السن. ربما شعرنا أيضًا أن هذه ليست مي وحدها، بل هي عين الروائية، تقول قلقها من العمر، وتواجهه بروايته، أو بإقصائه في رواية.

من هذا الفصل الذي يقول كثيرًا، فيما يتظاهر بأنه لا يقول شيئًا، نصل إلى ما قبل أو ما بعد، الرواية، هنا تحضر. الممثلة التي تلتقي بمراوغ؛ هو مخرج ومؤلّف مسرحي موهوم، ليس سوى هذه المراوغة وذلك الادعاء. يستغلّها في الكتابة، وفي الأداء، إلى أن تشعر بذلك وتهجره، ليُعاود الاتصال بها بدعوى الزواج، الذي هو من أخاديعه. يبقى الزواج وعدًا فحسب، وحين تحمل، يضربها حتى تُجهض. وتنتهي القصة بأن تشعل فيه النار وهو نائم.

نحن هكذا أمام حكاية حقيقية بلغة مادية هذه المرّة. لقد انقشع غيم الشيخوخة، وظهرت من ورائه دراما واضحة، لكن وضوحها مُربك أيضًا. لقد ظهر الواقع، ظهر وجود فعليّ، مقولٌ هذه المرة بلغته المباشرة، لكنه أكبر من أن يكون لمي.
يتراءى وكأنه لا يُعرض لممثلة، بل يكاد كلّه أن يكون من المسرح. مي، في جملة توهانها، تعرض لصورة لها تظهر فيها ممثلة، لكن القصة كلّها لا ندري إذا كانت لها. على الأقل، تريد الروائية أن تُبقينا في الالتباس. إنها تلمّح، لكن الرواية كلّها من لَمْح. بركات، التي بدأت بتوهان الشيخوخة، لا تريد أن تغيّر تمامًا هذا الإيقاع. إنها تضع وراءه صفحة من الانكشاف، من الوضوح، من الواقع. لكنه كأنه واقعٌ ضِدّي، لا نخرج منه بسهولة، ولا يخفى علينا أنه قد يكون مسرحًا فحسب.

تنتهي الرواية بإعلان عن بيع المنزل. يستقبل بعده يوسف، الذي كلّفه بذلك التوأمان الوريثان، راغبين في الاطّلاع على المنزل تمهيدًا لشرائه. لقد توفيت مي بالتأكيد. لم نعد هنا أمام اللّمح والإشارة. الواقع هنا يظهر بكل فظاعته: بيع وشراء وتجارة ومال.

لم نعد في التوهان ولا الهذيان ولا التصوّر. لقد ظهر الواقع المعاكس، الواقع الذي لا سبيل فيه لغير الحساب والمال. عندئذ نفهم إلى أين انتهينا، نفهم أيضًا أننا كنا دائمًا هنا. فمن وراء الغياب ووراء التوهم، كان هناك انفجار المرفأ، وكانت هنا أيضًا أزمة البنوك وسرقة الودائع. وراء ذلك، كانت الوقائع تُقال بلغة الصحف، وكانت النهاية الكارثية تتوالى فصلًا بعد فصل.


* شاعر وروائي من لبنان

Read Entire Article