فارس أمين... "أبد" فلسطيني على أوتار التشيلّو

1 week ago 6
ARTICLE AD BOX

يشكّل الفن وسيلة تعبير حيوية وأساسية لدى الشعوب التي تخوض صراعات وجودية، كما هو حال الشعب الفلسطيني. من هذا المنطلق، تأتي تجربة الموسيقي فارس أمين بوصفها نموذجاً لفنان يستخدم أدواته الموسيقية، ليس وسيلة للإبداع فحسب، بل فعل مقاومة ضد محاولات الطمس والإقصاء الثقافي.
في بلدة قلنديا، بين بيوتٍ فلسطينية قديمة يتجاوز عمرها مائة عام، وُلدت مقطوعة موسيقية ليست كأي عمل فني، بل هي صدى لصوت إنساني وسياسي. إنها "أبَد"، عمل موسيقي من تأليف عازف التشيلّو فارس أمين الذي لا يرى في التشيلّو مجرد آلة، بل وسيلة نضال، وصوت يُكمل حكاية فلسطين.
فارس أمين، ابن مدينة رام الله، بدأ رحلته مع الموسيقى في سن مبكرة، بدعم عائلته التي آمنت بموهبته منذ الطفولة. تعلّم آلة الكمان في السادسة من عمره، ثم شدّه صوت التشيلّو الذي يشبه صوت الإنسان في دفئه وامتداده، فانتقل إليه، وظلّ وفياً له لأكثر من 16 عاماً. في نظره، الموسيقى لا تنفصل عن الإنسان وعن هويته ونضاله، وحقه في أن يُعبّر ويُوثّق وجوده، ليس بالكلام بل بالصوت والنغمة والإحساس.
منذ بداياته، انفتح أمين على مشهد فني متنوع، فشارك في عروض موسيقية مع فرق وفنانين من مجالات مختلفة: من حكواتيين وراقصين إلى شعراء وأدباء. لم يكن عمله فنياً فقط، بل حمل بعداً إنسانياً أيضاً، فدخل مجال الدعم النفسي الاجتماعي من خلال الموسيقى، مؤمناً بأنها وسيلة علاجية قادرة على شفاء ما لا يُرى.
يرى أمين أن الموسيقى ليست فقط وسيلة إبداع، بل أداة لنقل الرسائل الوطنية والإنسانية، خاصة كونه فناناً فلسطينياً يسعى إلى تمثيل واقعه وقضيته. ويشير إلى أن عمله الأخير، "أبد"، يحاكي التراث الفلسطيني المهدد بالإقصاء والسرقة، ويُمثّل ردّاً مباشراً على محاولات محو الهوية والثقافة الفلسطينية، وذلك من خلال إقامته الفنية مع "مِشْكال"، وهو برنامج إقامة فنية يموّله الاتحاد الأوروبي، بإدارة معهد غوته والمجلس الثقافي البريطاني.
ومع تراكم تجاربه، ظلّ السؤال الأكبر حاضراً في وجدانه: كيف يمكن للفن أن يُقاوم؟ كيف يمكن أن يكون الصوت سلاحاً ضد المحو الثقافي؟ في ظل محاولات مستمرة لطمس الهوية الفلسطينية وسرقة تراثها، وجد أمين في الموسيقى وسيلته للدفاع، وللتوثيق، وللرد. فهو لا يرى نفسه سياسياً، لكنه، كأي فلسطيني، لا يمكن أن ينعزل عن الواقع، فوجوده بحد ذاته موقف. ومن هنا جاءت مشاركته في إقامة "مِشْكال"، التي شكّلت نقطة تحوّل في مسيرته، ومكاناً استثنائياً للعمل والبحث والتأليف.
الإقامة التي اتخذت من قرية قلنديا مقرّاً له، لم تكن فقط مساحة للإنتاج، بل كانت مصدر إلهام يومي. الجلوس في بيوت الفلاحين أصل الحكاية والموسيقى والفن والتنوع في التراث والفلكور والفنون المختلفة، أصل كل ما هو فلسطيني قديم نريد الحفاظ عليه. والعيش في تفاصيل المكان، منح أمين شعوراً عميقاً بالانتماء، وأشعل بداخله رغبة في ربط الموسيقى بالذاكرة، والبيت والهوية. هذه البيئة، بكل بساطتها وعمقها، صاغت مزاجاً موسيقياً مختلفاً لم يكن ليولد في المدينة أو خلف جدران الاستوديو.
أثناء الإقامة، بحث أمين بعمق في الموسيقى العربية، والمقامات الشرقية، ساعياً إلى أن تكون موسيقاه أكثر شاعرية وروحانية وأقرب إلى الناس. مزج آلة التشيلو، الغربية في أصلها، مع العود والإيقاع العربي، في محاولة واعية لتجسيد وحدة الأصالة والتجديد. وعلى هذه الأرضية، ولدت مقطوعته "أبَد"، المستوحاة من تجاربه ومن أبحاثه، وعمله مع زملائه الفنانين، ومن واقع فلسطيني يرزح تحت خطر الإبادة، بكل أشكالها.
يؤكد أمين أنّ "أبَد" ليست مجرد عمل موسيقي، بل هي حالة وصرخة بآلات وترية، تردّ على كلمة "إبادة" التي أصبحت تلاحق الذاكرة الفلسطينية خلال العام والنصف الماضيين. هي رسالة للعالم بأن الفلسطيني ليس رقماً، بل إنسان له صوت وتراث لا يمكن اقتلاعه. 
اختار أمين أن يكون هذا العمل خطوة أولى في مسيرة تأليفه الموسيقي التي بدأها حديثاً، ويطمح إلى أن تمتد وتتطور وتتعمق، ويستمر في مجال التأليف الموسيقي والتعاون مع فنانين من خلفيات متنوعة، إلى جانب العمل مع الأطفال ضمن مشاريع تعنى بالفن بوصفه وسيلةً شفائية وثقافية. ويأمل بتوسيع مساحة الفن والموسيقى في فلسطين، بوصفهما أداة توثيق ومقاومة ضد السياسات الاحتلالية التي تستهدف الهوية والثقافة الفلسطينية.

رغم التحديات الكثيرة، ابتداءً بغياب دعم الفن والثقافة في المجتمع، وليس انتهاءً بصعوبة تقبّل بعض الآلات الغربية مثل التشيلو، يبقى إصرارأمين ثابتاً؛ فهو يرى أن الموسيقى هي الجسر الذي يربط الفلسطينيين بالعالم، وهي اللغة التي يمكن من خلالها إيصال صوت القضية بعيداً عن السياسة التقليدية، لكنها في الوقت نفسه، مشبعة بالمعنى السياسي والوطني.
تشكل تجربة فارس أمين مثالاً حيّاً على دور الفنان الفلسطيني في مواجهة محاولات الإقصاء الثقافي، وتؤكد قدرة الفن، خاصة الموسيقى، أن يكون لغة عالمية تنقل رسائل إنسانية عميقة. من خلال مشروعه "أبَد"، يثبت فارس أن الموسيقى يمكن أن تكون وسيلة مقاومة، وحافظة لذاكرة وهوية شعب بأكمله. أمين ليس مجرد عازف تشيلّو، بل هو صوت يعزف من أعماق الذاكرة الفلسطينية يربط بين الماضي والحاضر، والواقع والأمل، وصدى لروح لا تعرف الاستسلام، ونغمة تقول: "نحن هنا، وسنبقى... إلى الأبد."

Read Entire Article