ARTICLE AD BOX
هذا العام، تبلغ رواية "السيدة دالاوي" (Mrs Dalloway) للكاتبة الإنكليزية المعروفة فرجينيا وولف، مائة عام، وقد نشرت عام 1925. قرأتُها مرّات ولم أكتفِ، ففي كلّ مرّة أعيد اكتشاف روعتها ولذّة قراءة كلّ صفحة من صفحاتها، حيث الجمل تتكسّر، تتكرّر، وتنساب متتبّعة حركة الأفكار في العقل البشري. والرواية التي تكتفي بسرد يوم واحد في حياة امرأة، هي كلاريسا دالاوي، المتزوّجة من عضو في البرلمان البريطاني، وهي في الخمسين من عمرها، وتُحضّر لحفل مسائي، أحدثت ولا ريب قطيعة مع الشكل الروائي التقليدي، وقدّمت عملاً يؤسّس لتيّار أدبي جديد هو "تيّار الوعي". وهي لم تُعِد تشكيل الأدب فحسب، بل كشفت أعماق النفس البشرية، والعلاقة الدقيقة بين الزمن، والذاكرة والهويّة، في لغة استثنائية مشبعة بالتوهّج الشعري. هذا وقد نشأ التيّار الحداثي في الأدب في مطلع القرن العشرين ردّة فعل على التقاليد السردية الكلاسيكية، إذ سعى الحداثيون من أمثال جيمس جويس، ومرسيل بروست، وويليام فوكنر، وفرانز كافكا، إلى تفكيك البنية الخطّية الأفقية للرواية، من خلال اختبار تقنيات جديدة تُحاكي تشتّت الوعي وتعقيدات الذات البشرية. صحيح أن جيمس جويس سبق وولف في استخدام أسلوب "تيّار الوعي" في روايته "عوليس" (1922)، إلا أن وولف قد أضفت حسّاً شعرياً داخلياً خاصّاً، هو أقرب إلى التأمل الصامت. وقد عبّرت عن مشروعها الكتابي بوضوح في مقالها النقدي الشهير "الأدب الحديث" (1919)، فدعت إلى تمثيل الحياة كما تُعاش في حقيقتها، لا كما تُروى: أي متقطعة وداخلية ومتبدّلة بشكل فجائي. هكذا، تتبدّى "السيدة دالاوي" التجسيد المثالي والأكثر تعبيراً عن هذا التصوّر، إذ يتمحور السرد حول اللحظة العابرة، إنما المشبعة بالذاكرة وبأصداء الماضي.
تدور أحداث الرواية كلّها في يوم واحد من شهر يونيو/ حزيران في لندن، غير أن هذا "اليوم" يحتوي عوالم بأكملها لشخصيات تُصوّر الكاتبة وعيَها في تدفّقه الطبيعي، مازجة الذكريات بالحواس، والخارج بالداخل. وللتركيز على مرور الساعات، هناك جملة تتكرّر لازمة وتصف صوت ساعة بيغ بن: "الدوائر الرصاصية تذوب في الهواء"، ما يرمز إلى انسياب الزمن وثقله في آن. تكتب وولف في وصفها السيدة دالاوي: "كانت تشعر بأنها شابّة جدّاً؛ وفي الوقت نفسه، مسنّة بشكل لا يوصف"، وهي مفارقة تجسّد تمزّق الشخصية الحديثة بين الماضي والحاضر، بين الأدوار المفروضة والرغبات المكبوتة، لا سيّما حين تستعيد كلاريسا قبلة قديمة تبادلتها مع صديقتها سالي سيتون، في لحظة حبّ صامتة تظلّ تطاردها.
على النقيض من كلاريسا، يظهر سبتيموس وارن سميث، الجندي السابق الذي يُعاني من صدمة الحرب (العالمية الأولى)، والذي يعيش في عزلة عقلية لا تُحتمل، إذ تتردّد في ذهنه عبارة "لم يعد قادراً على الإحساس". إنه ضحية مجتمع لا يفهم جراح النفس الخفية، ورفضه المشاركة في الحفل وعجزه عن مقابلة الناس، ثمّ انتحاره، ليس بأي حال نتيجة فشله الفردي، بقدر ما هو تعبير عن الانهيار الأخلاقي لمجتمع ما بعد الحرب. عند سماعها بخبر موته، تشعر كلاريسا بقرابة غامضة معه: "لقد جعَلها تشعر بالجمال؛ جعلها تشعر بالمرح." هكذا تلتقي شخصيتان من عالمَين متباعدَين، في إدراك عميق لمغزى الحياة والموت.
وإن كانت "السيدة دالاوي" قمّة نضج وولف روائياً، فهي ولا ريب جزء من مسار إبداعي ثري، بدأ بروايتها "غرفة يعقوب" (1922)، وبلغ ذروته في الأمواج (1931)، إذ تخلّت تماماً عن الحبكة لصالح مونولوجات شعرية متداخلة. في الختام، "السيدة دالاوي" تأمّل فلسفي عميق في ماهية الوجود، إذ نلمس في كلّ سطر الشكّ والحنين والتوق إلى الجمال، والرغبة في التقاط لحظة هاربة من الزمن. رواية تُشبه الحياة، عابرة، مشوّشة، وفي اضطرابها وغموضها يكمن سحرها. كلّه.
